غزة | لم تُشِر حدّة القصف المدفعي المهول، والذي شهدته المناطق الشرقية والغربية من شمال قطاع غزة ليل الأربعاء – الخميس، إلّا إلى أن مئات القذائف المدفعية والصواريخ الحربية، كانت غطاءً للبدء الفعلي بالعملية البرّية المرتقبة، ولا سيما أن ذلك القصف تزامن مع إعلان رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، عن مؤتمر صحافي طارئ، رجّحت وسائل إعلام عبرية أن يعلن فيه نجاح جيشه في اغتيال قيادات بارزة في حركة «حماس» وجناحها العسكري، ولكن اتّضح لاحقاً أن هذا التطوّر لم يحمل أيّ جديد، رغم حديث وكالة «رويترز» عن تقدّم برّي كبير لقوات الاحتلال في مناطق واسعة من القطاع، لم يذكر العدو لا محوره ولا مكانه ولا المنجزات التي حقّقها عبره، فضلاً عن أن المقاومة نفسها لم تتطرّق إليه أساساً.

وفي موازاة ما يراد تصديره على أنه تمهيد ميداني للعملية البرّية، يُلاحظ، هنا، أن وسائل الإعلام الغربية تخوض هي الأخرى هجوماً إعلامياً تمهيدياً، عبر ضخّ العشرات من التقارير التي تورد سيناريوات تبدو للوهلة الأولى «صادمة». وفي هذا الإطار، تحدّثت صحيفة «وول ستريت جورنال» عن أن جيش الاحتلال بنى مكاناً شبيهاً بغزة في صحراء النقب، ضمّ نحو 600 مدينة وقرية وحيّ من أحياء القطاع، يستخدمه في الوقت الحالي للتدرّب على القتال وجهاً لوجه في الأزقّة والشوارع الضيّقة، فيما قالت شبكة «سي أن أن» إن وزارة الدفاع الأميركية سترسل مزيداً من المستشارين العسكريين إلى دولة الاحتلال للإشراف على العملية البرّية، من بينهم الجنرال جمس غلين الذي قاد عمليات الفلوجة في العراق عام 2004. أمّا الخبر الأكثر رواجاً وإثارة لـ«الصدمة»، فكان ما نشرته صحيفة «ميدل إيست آي» من أن الجيش الإسرائيلي يستعدّ، بالمشاركة مع قوة «دلتا» الأميركية، لإغراق أنفاق المقاومة في غزة بغاز الأعصاب وغازات كيماوية أخرى، ما سيتسبّب في القضاء على الآلاف من مقاتلي «حماس»، ويسرّع من عملية تحرير الرهائن، وفقاً لما يجري الترويج له.

هجوم برّي استعراضي
بالعودة إلى التوغّل البرّي الأخير، والذي لا يبدو أن منفّذيه استطاعوا التقدّم إلى أيّ من الأحياء المأهولة في المناطق الشرقية والغربية من شمال قطاع غزة وشرقه حتى، وفيما تحتكر إسرائيل وحدها والمصادر المقرّبة منها رواية هذا الحدث في ظلّ إحجام الأذرع العسكرية لفصائل المقاومة عن تقديم أيّ تعليق عليه، من الجيّد الإشارة إلى جملة من الوقائع التي شهدها ليل الأربعاء – الخميس. إذ دكّت المدفعية والطائرات الحربية، المناطق الطرفية من شمال غزة كافة، شرقاً وغرباً، بالمئات من القذائف وصواريخ الأرض – أرض، إذ أمكن تسجيل ثلاثة انفجارات في كلّ دقيقة. وبالتزامن مع ذلك، نفّذت الطائرات الحربية أحزمة نارية عنيفة جداً، طاولت أحياء اليرموك والنصر والعيون. وبالنظر إلى كثافة هذه الغارات، يبدو أن جيش الاحتلال كان يتوقّع اصطياد قادة كبار في تلك المناطق، قبل أن تكشف الساعات اللاحقة خيبة تقديراته، إذ تسبّب القصف في استشهاد أكثر من 70 مواطناً وإصابة المئات، جلّهم من النساء والأطفال، فقط.

وإلى المناطق الطرفية التي هي مساحة التقدّم البرّي المرتقب، من الجهة الشرقية للقطاع، تحيط بالسياج الفاصل على طول 40 كيلو متراً من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، مساحة حدودية جرداء، محروقة عسكرياً، تبدأ ببضعة مئات من المترات المكشوفة، والتي تقود إلى مساحات واسعة من الأراضي المزروعة بالخضروات والنباتات الصغيرة (تُمنع مثلاً زراعة الذرة في تلك المناطق)، وتصل إلى مناطق في وسط غزة، جرداء هي الأخرى وممتدّة على مساحة بضعة كيلومترات، قبل أن تضيق قليلاً في بعض مناطق جنوب القطاع. وعليه، فإنه في حال تمكّنت قوة إسرائيلية، فعلياً، من التقدّم البرّي في داخل الحيّز الجغرافي للقطاع، بغطاء مهول من المدفعية الثقيلة والمركّزة، فإن ميدان عملها لن يتجاوز الشريط القاحل على طول الحدود الشرقية، فيما لا يحمل العمل هناك أيّ فرصة لتحقيق أيّ منجز ميداني، بالنظر إلى أن المناطق المُشار إليها هي أصلاً ساقطة بالنار. ووفقاً للتقديرات المتوافرة حول الحادثة، فإن جيش الاحتلال حاول انتشال عدد من جثث جنوده، والتي لا تزال متروكة في الفلوات منذ هجوم السابع من تشرين الأول، ولعلّ منجزه الأكبر هنا تمثّل في الوصول إلى نقطة ميدانية في داخل السياج الحدودي، قريبة من الشريط المحاذي للقطاع، ما يعني أن ذلك الهجوم لا ينضوي على أهداف عملانية حقيقية، بقدر ما هو مناورة ميدانية وخطوة استعراض يسعى الاحتلال عبرها إلى إعادة الثقة إلى جنوده، وتحديداً في «فرقة غزة» المدمَّرة.

غاز الأعصاب ليس صادماً
لا يحمل التقرير الذي نشرته «ميدل إيست آي» عن نيّة جيش الاحتلال، بالشراكة مع قوة «الدلتا» الأميركية المتخصّصة في عمليات تحرير الرهائن، استخدام غاز الأعصاب في الهجوم على أنفاق المقاومة في القطاع، أيّ صدمة فعلية. ذلك أن جيش الاحتلال بذاته كان قد نفّس هذه المفاجأة، عندما استخدمها في معركة «سيف القدس» في عام 2021، بقصف مركز قيادة وسيطرة تابع لـ«كتائب القسام» في وسط مدينة غزة، ما تسبّب في استشهاد ثمانية من قادة «القسام»، أبرزهم عضو المجلس العسكري باسم عيسى، ومهندس المقاومة الأول جمال الزبدة، إلى جانب العشرات من المقاومين. آنذاك، حَقنت قنابل الـ«جي بي يو» الأميركية، الأنفاق، بغاز عديم الرائحة، يتسلّل إلى الأجساد عبر مسامات الجلد وليس الاستنشاق، ويتسبّب في الوفاة في غضون دقائق معدودة. لكن ردّة الفعل الإسرائيلية غير المتناسبة مع مستوى الحدث المبادَر إليه في تلك المعركة، التي بدأت بإطلاق المقاومة 6 صواريخ على مدينة القدس، أدّت إلى انكشاف خطط عسكرية خطيرة استغرق التخطيط لها سبع سنوات، في معركة لم تستمرّ سوى عشرة أيام وثماني ساعات. ومع هذا، فقد ظنّت المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية، يومها، ربّما، أن في وسع الكثافة النارية المهولة، المدعومة بمعلومات مخابراتية دقيقة جداً، أن تسهم في صناعة حالة من الردع، تمنع «القسام» من الدخول في حرب جديدة لمدّة أقلّها 15 عاماً، وهو ما ثبت بطلانه لاحقاً.

لا شيء جديداً حتى اللحظة
بعد 20 يوماً من القتال، وبالاستناد إلى التكتيك العسكري الإسرائيلي الذي انتُهج في حرب عام 2021، وباستثناء تعمّد ارتكاب المجازر الكبرى وقصف المنازل والمربّعات السكنية من دون إنذار مسبق، لا يقدّم جيش الاحتلال أيّ تكتيك عسكري جديد حتى اللحظة. إذ إن الأحزمة النارية، وحقن الأنفاق بالغاز، والإغراق المدفعي، كلّها أساليب شكّلت، إبّان «سيف القدس»، صدمة غير معهودة للمقاومة، فيما تَمثّل منجز الأخيرة وقتئذٍ في امتصاص ذلك الهول الناري، ومواصلة الإغراق الناري حتى الساعة الأخيرة من المعركة. وفي «طوفان الأقصى»، تحضر تلك الأساليب كلّها، لكن ما يغيب، هو الاستناد إلى المعلومة المخابراتية الدقيقة، إذ إنه وخلافاً لعام 2021، لا ضربات ناجزة ومؤثّرة حتى اللحظة، فيما تشير التقديرات إلى أن المقاومة درست الثغرات التي واجهتها في معركة «سيف القدس»، وأعدّت خطّة دفاعية تتجاوز فيها كلّ خواصر الاستهداف الرخوة.
ولعلّ أهمّ ما يمكن الإشارة إليه هنا، أن مدينة الأنفاق الكبيرة التي بنتها المقاومة طوال سنوات تحت الأرض، عادت وأخرجت مساحات كبيرة منها من الخدمة، وحوّلت بعضها إلى معارض سمحت للمواطنين بزيارتها قبل «طوفان الأقصى» ببضعة أشهر. وبالاستناد إلى عملية العبور الكبيرة في 7 تشرين الأوّل الجاري، يمكن التقدير أن المقاومة تعتمد على الكيف المنجَز، عوضاً عن الكمّ المترهّل، إذ إن 1200 مقاتل من أصل 100 ألف كانوا على علم فقط بخطّة الهجوم على مستوطنات قطاع غزة، وعلى المنوال نفسه، يمكن الحديث عن بضعة أنفاق يطّلع عليها عدد محدود من الجنود، عوضاً عن مدينة مترامية من الخطوط التي يتسبّب قصف جزء منها، وحقنه بالغاز، في إخراجها كاملة من الخدمة. وبهذا، أمكن للمقاومة تفادي عمليات الاختراق، وتحصين غرف القيادة والسيطرة الخاصة بها، فيما لا تزال تواصل إدارة المعركة بكلّ الاقتدار المشهود.