أردوغان و”الطوفان” والحملات الصليبية!

جوزيف حبيب-نداء الوطن

يُجيد أردوغان «اللعب» بمهارة على وتر إثارة مشاعر المسلمين لتعزيز مكانته «قائداً إسلامياً» يتخطّى نفوذه وتأثيره حدود بلاده، وهذا ما جعله، إلى جانب عوامل ومعطيات أخرى، يتربّع على عرش السلطة طوال عقدَين. لطالما استنجد الرئيس التركي بالتاريخ، طبعاً وفق «نسخته» المجتزأة والمعدّلة، بغية تحقيق أهدافه على الساحتَين الداخلية والخارجية، خصوصاً عندما تكون «رياح» التحوّلات الجيوسياسية تعصف بما لا تشتهي سفنه «العثمانية» المُحافظة.

منذ انطلاقة مسيرته السياسيّة الحافلة التي بدأها رئيساً لبلدية اسطنبول عام 1994، ورغم كونه سياسيّاً براغماتيّاً ينتهج مقاربات مصلحية بمكيافيليّته المعتادة، يُحمّل أردوغان الغرب المسؤولية عن معظم مشكلات بلاده و»العالم الإسلامي»، ويستحضر تاريخ الحملات الصليبية بانتقائية موصوفة في أكثر من مناسبة لاستقطاب الجماهير وتحريضها دينيّاً ضدّ «أعدائها»، وتصوير نفسه «سلطاناً» عثمانياً جديداً شغله الشاغل حماية المسلمين من «حملة صليبية ضدّ الهلال»، كما جاء على لسان الزعيم التركي في خطابات عدّة له خلال السنوات الأخيرة.

كان وقع يوم السابع من الشهر الجاري قاسياً على السياسة الخارجية التركية التي جهدت لتطبيع علاقاتها مع مختلف خصومها الإقليميين، إحياءً لنهج «تصفير المشكلات» مع الخارج، إذ كما باغتت عملية «طوفان الأقصى» إسرائيل، صدمت أنقرة وأعادت «بعثرة» أجندتها وأولويّاتها. كانت تركيا تسعى إلى تتويج إعادة تفعيل علاقاتها بالدولة العبرية بزيارة أردوغان إسرائيل، لكن تسارع الأحداث أطاح الزيارة، بل زاد حدّة التوترات بين أنقرة وتل أبيب، التي استدعت ديبلوماسييها من تركيا لإعادة تقييم العلاقات معها.

لم تستسِغ أنقرة التراجع الهائل في نفوذها على «الساحة الغزاوية»، ولا سيّما مع حركة «حماس» الإخوانية، على حساب تجذّر النفوذ الإيراني وتغلغله في القطاع، مع محافظة قطر أيضاً على علاقاتها الوثيقة بـ»حماس». ولتعويض هذا الفراغ، أقلّه معنويّاً، أكبّ أردوغان على مهاجمة إسرائيل لقصفها الوحشي غزة، وصولاً إلى مغازلته «حماس» وإثارته غضب تل أبيب من خلال تأكيده أنّ الحركة بمثابة «قوات تحرير» وليست «منظّمة إرهابية»، واصفاً عناصرها بـ»المجاهدين».

ذهب أردوغان إلى حدّ اتهام الغربيين بأنّهم «المذنبون الرئيسيون في مجازر غزة»، وقال في خطاب عاطفي ناري خلال «لقاء لدعم فلسطين» في اسطنبول السبت الفائت: «أسأل الغرب: هل تختلقون جوّاً جديداً من الحملات الصليبية ضدّ الهلال؟». وكلام أردوغان العالي النبرة إنّما ينمّ عن عجزه عن القيام بأي خطوة أو مبادرة تُعطي بلاده مكانة بين الدول وسط الحرب المندلعة، بينما اقتحمت كلّ من إيران وقطر ومصر وروسيا وغيرها المشهد بقوّة، كلّ منها على طريقتها، من خلال استثمار علاقاتها بـ»حماس» في محاولة للإفراج عن الرهائن لدى الحركة ولإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة معها لتأدية أدوار ديبلوماسية في المستقبل أو لتحقيق مكاسب سياسية في ملفات وساحات أخرى.

ويعتبر مراقبون أنّ أردوغان صاحب «المعايير المزدوجة» آخر من يحقّ له إعطاء دروس أخلاقية بحقوق الإنسان، وهو الذي تُمعن آلته الحربية في معاقبة أهالي شمال سوريا وشمال العراق بحملات متتالية من الضربات الجوّية التي غالباً ما يدفع ثمنها المدنيون تحت شعار «محاربة الإرهاب»، مشيرين كذلك إلى دعمه اللامحدود لأذربيجان وتغطيته تهجير أرمن «جمهورية» أرتساخ و»تطهير» المنطقة عرقيّاً من سكّانها الأصيلين، ومسارعته إلى الاحتفال مع الديكتاتور الأذري إلهام علييف بهذا «النصر».

وفي ما يتعلّق بدغدغة أردوغان مشاعر المسلمين، يُذكّر المراقبون بأنّ الرئيس التركي عَكَفَ على ترحيل مسلمين من أقلية الإيغور، وهم من العرقية التركية، إلى دول ثالثة لتسهيل الأمر على الصين باستعادتهم، بعدما هربوا من الاضطهاد في منطقة شينجيانغ إلى ما اعتقدوا أنّه «ملاذهم الآمن»، أي تركيا. كما انتهج أردوغان سياسة تدخليّة هدّامة تجاه دول عربية ودول أخرى، بدعمه حركات إسلامية أصولية أمعنت في إغراق مجتمعاتها بالأزمات والحروب والمآسي والتخلّف والفقر… ليعود بعدها ويغسل يديه من دماء الأبرياء، مصوّباً أصابع الاتهام دائماً في اتجاه الغرب و»الصليبيين»، المُتحالف معهم أصلاً، لتحصين نفوذه وسلطته باسم الإسلام والمسلمين!

Exit mobile version