من الطبيعي أن نحزن كلما سقط مدني، سواء كان من أبنائنا أو من أبناء أعدائنا، في حروب هؤلاء الأخيرين التي تنكبنا بين الفينة والفينة، بالإضافة الى حروبنا فيما بيننا أيضا التي، يا للأسف، امتلك هؤلاء الأعداء في بلداننا أدواتها وأساليبها وتحكموا في مواقيتها. ولكن ما يحزننا أكثر هو أن يتهمنا هؤلاء الأعداء، وهم المبادرون أصلاً للعدوان علينا لاحتلال أرضنا والاستيطان فيها، بعد ترحيل أهلنا بواسطة المجازر، ومصادرة الأرض والحقول وقطع الأشجار، ولوضع اليد على الثروات الطبيعية.
فمن البديهي أن هذه الفعلات ترافقت دائماً مع جرائم شنيعة، لا شك في انه نتج منها أحياناً ردة فعل أصابت مدنيين غير مقاتلين، كما حدث مؤخراً في مستعمرات غلاف قطاع غزة، في الجانب المقابل، مهما يكن فإن الحرب تدور على أرضنا، وبالتالي فإن ردة الفعل لا تتعدى منطقياً والدفاع عن النفس، وإبعاد المهاجمين والغزاة أو ثنيهم بما استطعنا إليه سبيلا، لا سيما انه ليس لدينا عملياً دول وطنية، بالمعنى الدقيق لهذا المصطلح، تتولى الدفاع عنا. ينبني عليه أن حروب العدوان التي نتعرض لها تسفر دائماً دون استثناء، عن خسائر بشرية فادحة في صفوفنا، حيث تكون غالبية القتلى من المدنيين، وقلة قليلة من المقاتلين، من حركات المقاومة الوطنية، التي تتشكل وتتحلل كما هو معروف، توازيا مع تفكك الدولة التي لم تتوكل موضوعياً بمصالح شعوبها، وإنما بمصالح الدول الأجنبية “الاستعمارية”، ولم ترق إلى مستوى الدولة الوطنية.
يدهشك الى حد الذهول، التجييش المتصاعد ضد “الإرهاب الإسلامي”، الذي تعمل السلطات في الدول الغربية على النفخ فيه، من كل مشكلة فردية أو جماعية، محلية أو عالمية، ليكون عاملاً مساعداً في العدوان والإرهاب اللذين تتخذهما في بناء امبراطورية استعمارية موحدة، “لا تغيب عنها الشمس”. وإلا كيف نفهم العلاقة التي تربط في نظر هذه الدول بين مسألة اجتماعية ناتجة من رفض هذ الدول استيعاب المهاجرين، الذين دمرت بلدانهم نتيجة الحروب وإتلاف المحاصيل الزراعية والعقوبات الاقتصادية، والتلوث البيئي من جهة، وبين عمل مقاوم ضد الاحتلال، انتفاضة مسلحة تقودها حركة مقاومة ضد الوضع المفروض على سكان قطاع غزة منذ سنين عديدة من جهة ثانية. يعرف الجميع في البلاد الأوروبية حقيقة هذا الوضع، وأنه نتيجة الحروب المتتالية التي شنها “الإسرائيليون” على سكانه المليونين، المحتجزين في سجن “بلا سقف” مساحته 360 كلم².
يخيل إليك أن الوضع البائس الذي يعاني منه هؤلاء السكان في قطاع غزة وفي سائر المناطق الفلسطينية، قائم منذ أن غزا الأميركيون وأتباعهم في دول المعسكر الغربي أفغانستان والعراق وسورية وليبيا والسودان واليمن . وأنه ليس نتيجة تراكمات سياسات استعمارية، بدأت بواكير جرائمها بالظهور في آذار 1920، بمناسبة عيد النبي موسى الذي يحتفل به المسلمون، وتحت حكم المندوب السامي البريطاني عضو الحركة الصهيونية صموئيل هربيرت، وثورة العشرين (1920) في العراق التي قتل فيها 400 من جنود بريطانيا، كان من بينهم جنود من الحركة الصهيونية، مقابل 8500 من المدنيين والمقاتلين العراقيين.
أما ادعاء انصار الحركة الصهيونية بملكية الأماكن المقدسة في القدس، فإنه يرجع إلى سنوات 1928 ـ 1929، التي نجم عنها اضطرابات عنيفة بينهم وبين العرب، أعقبه حملة قمعية شديدة قامت بها سلطات الانتداب البريطاني. في هذه الأجواء ولدت كتائب عز الدين القسام، باسم مؤسسها، الذي قاد حرب عصابات ضد الاحتلال البريطاني في سنة 1935 واستشهد في العام نفسه، فواصل أنصاره النضال من بعده، وشاركوا في الإضراب الشعبي الكبير في سنة 1936، التي أدى فيها الفلاحون دوراً رئيسيا، مقصين الإقطاعيين وزعماء العائلات من الصفوف الأمامية.
هنا سارعت سلطات الانتداب إلى توظيف حكام السعودية والأردن والعراق في وساطة من أجل تهدئة الأوضاع والقبول بلجنة تحقيق بريطانية، تقترح على أساسه مشروع اتفاقية بين العرب الفلسطينيين من جهة، والحركة الصهيونية من جهة ثانية (لجنة بيل).
ولكن الانتفاضة العربية المسلحة عاودت من جديد في سنة 1937، وغطت كافة أنحاء فلسطين، احتجاجاً على اقتراح قدمته لجنة التحقيق يقضي بتقسيم فلسطين، حيث قابلتها السلطات البريطانية بحملة قمع وحشية، مشتركة بين الجنود البريطانيين من جهة والحركات الصهيونية المسلحة، مورست خلالها العمليات الإرهابية، والمداهمات الليلية، والاغتيالات، ووضعت المتفجرات في الأسواق والمركبات، ونسفت المنازل، ونفي نشطاء الحركة الوطنية الفلسطينية، ومنعت الأحزاب وامتلأت المعتقلات (كانوا 6000 في سنة 1939، في حين أن 110 من المواطنين الفلسطينيين أعدموا شنقا في هدا العام 1939). ما أشبه اليوم بالأمس ! الحاضر ابن الماضي، ولكن مئة عام من المقاومة.
مجمل القول ان ما يجري اليوم فلسطين، يتكرر منذ بداية القرن الماضي. ما يقوم به الفلسطينيون لا يعدو انتفاضات مسلحة أحياناً، لم تصل يا للأسف إلى مستوى الثورة ضد استعمار كان بريطانيا، فصار غربياً اميركيا ـ أوروبياً، يحاول إبادة الفلسطينيين… كما أبيدت شعوب في إفريقيا وأميركا الشمالية، وكما حاول العنصريون اللاساميون في أوروبا، على رأسهم النازيون في المانيا وعملائهم في فرنسا وإيطاليا وبولونيا، إبادة اليهود المتحدرين من شعوب الخازار. صدق شاعر المارتنيك ايميه سيزير عندما قال: إن هتلر الزعيم النازي الألماني، يسكن في نفس كل حاكم أوروبي أو أميركي شمالي.