المنطقة تتبدّل .. الموارنة في “مهب الأقصى”

أيمن جزيني -أساس ميديا

لن تنتهي مفاعيل ما يجري في غزّة، في زمانه ومكانه. ستمتد تأثيراته لتطال كل شيء.
في لبنان، وضعت عملية “طوفان الأقصى” المسيحيين، أهلاً وجماعات وسياسات، أمام أسئلة كان الرد عليها من طبيعة محلية، تتصل برغبات مارونية محضة. لم تكن على مستوى ارتقاء الصراع العربي الإسرائيلي إلى مستوى إستراتيجي جديد.
تناولنا هذا في الحلقتين الأولى والثانية. في الحلقة الثالثة هذه، تعريج على الكيان المسيحي أساساً ونشأةً، ومقارنة بين ظروف قيامه والظروف المحيطة به الآن، في ظل ما يحيط به من مخاطر وجودية. الاسئلة الصعبة والمخاطر لم تحدث صدمةً في الوعي الماروني السياسي وحتى الجمعي حينا. هذا ليس مغالاةً ولا اتهام. السيء انهم انكفأوا أكثر فصاروا في مهب عملية “طوفان الأقصى” وما ستسفر عنه من نتائج وتحوّلات لسنوات مقبلة.

*****************************

بُعيد “عملية الأقصى”، برزت قبيل الإبادة الجماعية التي أطلقتها إسرائيل ردّاً عليها، وفي أثنائها، مواقف تُطرَح على أنها حلول نهائية وجذرية للقضية الفلسطينية. المواقف الزربة  تفوّه بها قادة إسرائيل. ما من شيء قاله هؤلاء إلا ويندرج في سياق ما رُوّج له. بعض المواقف العربية أظهرت أنّ ما يُروّج له مطروحٌ على الطاولة، ومنذ زمن. منها نقل فلسطينيي الضفة إلى الأردن، وفلسطينيي غزة إلى سيناء. ومنها مقترح مضادّ بنقلهم إلى النقب. في السياق، توطين فلسطينيي الشتات في البلاد التي يقيمون فيها، وأبرزها لبنان.
يترافق هذا التوطين مع مساعٍ إلى توطين آخر، توطين اللاجئين السوريين الهاربين إلى لبنان، فيه. كلّ هذا لا يريد أن يعرفه الموارنة وقادتهم السياسيون. مشكلتهم انتقلت من السياسي  إلى الاهلي ـ الاجتماعي، ولم يكن بحال من الأحوال من طبيعة ثقافية أو معرفية أو حتى عن مدى اتصال أدوات العقل بالمعرفة. سقطت المشكلة من مرتبة الوجود إلى المقارنة بين شاطئي عمشيت وصيدا: في الأول، هناك حرّية ارتداء المايوهات واحتساء الكحول. في الثاني، حظر التعرّي والكحول. من كانت حاله هكذا، ينبغي له أن يستتر سياسياً.

التوطينان في لبنان، وذانك التهجيران من فلسطين، ينمّان عن مخطط لإعادة ترسيم المنطقة، ذلك منعاً للسقوط في هول وقع مؤامرة تقسيمها. ثمّة دول محيطة بنا تتغيّر. يُعاد تشكيل فسيفسائها الاجتماعية، كما تركيبتها، ناهيك عن دورها الداخلي المحلّي، والخارجي الإقليمي.
يحدث هذا في فلسطين، كما يحدث في العراق وفي سوريا. ما سبق ذكره يشي بأنّ هذا أيضاً يُخطط للأردن ومصر. ولا يحدث بالطبع بعيداً عن موجة التطبيع من أقصى المغرب العربي إلى أعماق الخليج. ما عاد هناك وطنيات عربية. السودان صار ثلاثة. ليبيا تحمل أرقاماً قياسية في الانقسام والتقسيم. اليمن تصدّر هذا المشهد منذ تطوّع ذات لحظة مذهبية لتهديد الأمن القومي العربي وذروته المملكة العربية السعودية.

رياح غريبة.. لا غربية
يترافق ما يحدث حول لبنان، وفي صميمه، مع كلام عن تعديل دستوري، وعن فيديرالية وكونفيديرالية، وعن لا مركزية إدارية موسّعة. ثمّة كلام أيضاً عن فئات متنافرة، وغير متفقة على شيء في البلد الصغير. وثمّة كلام من عيار التنافر حدّ الطلاق والكراهية. وإلى هذا وذينك، تُطلق إسرائيل بين الفينة والفينة، تصريحات وتهديدات تتوعّد لبنان بإعادته إلى العصر الحجري، وبإزالته عن الخريطة.
في قلب هذا المشهد، يقع لبنان بلا رئيس للجمهورية، ولا حاكم لمصرف لبنان، وبالكثير من القلق على قيادة الجيش التي تشغر قريباً. أي إنّ لبنان في هذا المشهد بلا رؤوسه المارونية، والموارنة فيه بلا “دولتهم” التاريخية.
ما يبعث على القلق على المسيحيين أنّه في لحظة تهبّ فيها رياح الدول الكبرى والمتوسطة على المنطقة، يقبع الموارنة و”لبنانهم” في عين العاصفة، بلا سند غربي، أو أمّ حنون، تخفّف قليلاً من قلقهم الوجودي.
حتى البطريرك الماروني بشارة الراعي، لم يستطع جمعهم على كلمة سواء. كيف لا والموسم موسم انتخابات رئاسية؟ في السابق كانت تقوم الدنيا ولا تقعد خلال المعارك الرئاسية، وكانت تدور أشهراً وبلا فراغ. فكيف الحال الآن في معركة رئاسية عمرها حتى اللحظة بالسنوات لا بالأيام والأشهر، وفي ظلّ فراغ دستوري، وانهيار اقتصادي، وعلى شفير حرب، بل في قلبها؟
لا تشبه رياح هذه الأيام، الرياح التي هبّت في أثناء الحرب العالمية الأولى وبُعيدها، والتي حملت معها “لبنان الكبير” ونقلته من بال الموارنة إلى هذه البقعة الجغرافية، وإلى حيّز التحقيق.
يومها كانت المنطقة في عين الدول الكبرى، وعلى حدّ سكينها. وكان الانتداب. وكان رحيل الأتراك عن بلاد الشام وزوال الخلافة العثمانية. كانت الفكرة حاضرة في بال الموارنة ومتوقّدة في بال بطريركهم. يومها اعتمد البطريرك إلياس الحويك فكرة لبنان الكبير.

التاريخ المفقود
وضع المسيحيين اليوم عموماً، وعلى وجه الخصوص الموارنة، يستثنيهم من المشهد المقبل. ما عندهم في هذه اللحظة هو غير ما حازوه في عشرينيات القرن الماضي. آنذاك، وفي لحظة تأسيس الجمهورية اللبنانية، كانوا موجودين.
ـ البطريرك الياس بطرس الحويك، ذهب إلى فرساي على رأس وفد من الإكليروس. خلال إقامته هناك انبثقت سردية عاشوا عليها لسنوات. جوهرها أنهم انتزعوا دولة لبنان الكبير. يومها وقف الحويك أمام رئيس الحكومة الفرنسية جورج كليمنصو الذي كان كارهاً له على ما يقال، وبسبب من انتماء ماسوني للأخير.
ـ السردية هذه استمرّت طويلاً. هزّها وأسقطها لاحقاً فائض العروبة عند المسلمين معطوفاً على عناد “المارونية السياسية” التي رفضت إجراء إصلاحات سياسية. وكان أن انفجر البلد بحروب لبنانية حقيقية وأخرى مُلبنَنة.
اليوم، قد يعاد تأسيس المنطقة من جديد، بمعزل عن المسيحيين. إسرائيل موجودة في المنطقة منذ عام 1948. هذه حقيقة تجب مواجهتها، ولو إلى حين. إسرائيل جسم سياسي قائم بفائض الدعم العالمي والعسكري والأمني. وجودها وشعبها ومشروعها دُفع ثمنهم دماً. وكي تبقى ستسيل دماء كثيرة.
عملياً، لا حلّ في المنطقة إلا بوجود المسلمين، أي السُنّة ومعهم الشيعة. المسيحيون في هذه المعركة غير موجودين فعلياً، أي في لحظة إعادة ترتيب الأحجام وتوزيع النفوذ. ليس لديهم حتى اللحظة أي عنوان سياسي يعيدهم إلى طاولة المفاوضات في المنطقة.

أزمة وجود
المسيحيون في لبنان، وتحديداً الموارنة منهم، في أزمة. أزمة كبيرة جداً. هم في مواجهة أسئلة صعبة. الإجابة حتماً لن تكون، ولا يصلح أن تكون بعناوين مثل اللامركزية الإدارية، أو الفيدرالية، أو ترتيب الشؤون الداخلية. هذه العناوين لا تتناسب مع حجم التبدّلات الكبرى الموجودة.
ليس بينهم من يجرؤ حتى الساعة على الجهر بما إذا كان مع الحرب أو السلام. هم في زمن التيه السياسي. فالحرب هي ما يحصل الآن.
أما السلام، فهو سلام المنطقة. وهذا لا يعني سلام العرب مع إسرائيل، بل سلام لبنان أيضاً. لا يكون سلام من دون الحزب، كما لا تقوم حرب من دون أن يكون طرفاً رئيساً فيها. وعليه تدور به الحرب وعليه. أما السلام، فلا بدّ أن يكون معه، ولا شكّ سيرسم فيه ويحدّد لبنانه.
ليس لدى المسيحيين اللبنانيين، وتحديداً الموارنة منهم، ما كان لهم في عشرينيات القرن الماضي، ليجلسوا إلى طاولة التقاسم في المنطقة:
ـ اليهود لهم حصّة.
ـ المسلمون السنّة ستكون لهم الحصة الأوزن، بحكم الجغرافيا والديموغرافيا.
ـ المسلمون الشيعة موجودون بحكم الاستثمار الإيراني على كلّ المستويات، في العيش وطرائق التفكير والأداء.

فقدان القدرة … وزمنٌ مُستعاد
أيضاً وأيضاً يفقد المسيحيون القدرة على الاستثمار في السياسة والاقتصاد والثقافة لأنه في لحظة بناء الدولة في لبنان، وبناء الدولة في سوريا، وبناء الدولة في الأردن، وبناء الدولة في فلسطين، لا يوجد مسيحي لديه مانيفست سياسي يعلنه.
في العام 1920 كان الحويك. في العام 1943 كان الرئيس الراحل بشارة الخوري الذي قال للمسلمين على معنى من المعاني : أنا رغم الذي قدمته فرنسا (وبريطانيا مواربةً) لنا كمسيحيين من دعم ثقافي وسياسي وأمني، أنا أُعلن أنّ لبنان ذو وجه عربي.
في العام 1989 كان يوجد البطريرك مار نصر الله بطرس صفير الذي نادى باتفاق الطائف، وبأنّ لبنان وطن لجميع أبنائه، عربيّ الهويّة والانتماء. أبعد من ذلك، قال في قرنة شهوان: لا عودة عن الإصلاحات الدستورية التي اُقرّت في وثيقة الاتفاق الوطني.
جاء البابا يوحنا بولس الثاني إلى سوريا عندما كانت وصاية هذه البلاد كاملة وناجزة على البلد، إلا أنّ البطريرك صفير لم يذهب لملاقاته. آنذاك كانت المعالم المسيحية ثابتة على هذا القدر أو ذاك.
اليوم صارت المسيحية السياسية بموقع المتلقّي لا الفاعل أو المُبادر. من كان منها حليفاً للحزب يبحث في إعادة ترتيب أوراقه معه. هذه حال فرنجية وباسيل. أما من كان منها يختصمه، فقد انسحب من الحوارات الوطنية. ولا أحد يعرف حتى الساعة أين الكنيسة.
عند المسيحيين اليوم جعجع الذي يحتفي مع طلاب اليسوعية بفوزهم بانتخابات طالبية باليسوعية ويغني “باي باي يا حلوين”. أهمّ ما عنده هو دعوة لبنان ـ أيّ لبنان؟ ـ ليتعظ من انتخابات رفيق ينتخب رفيقاً، متضرّعاً إلى السماء أن تصبح الانتخابات إلكترونية. هو بطبيعته شغوف حدّ العشق بالتطوّر الإلكتروني. كلما كابدته السياسة يمنّن اللبنانيين باقتراحات تشريعية مضمونها إلكتروني. أما وأنّ البرلمان قد أقفل سيّده أبوابه، فما عاد لوريث بشير الجميل وإيلي حبيقة غير سياسة المُلهَم والمُلهِم.
هذه الأيلولة الكارثية لأحوال المسيحية والمسيحيين، تحصل في ظلّ ضمور الطبقة الثقافية والسياسية فيها القادرة على استشراف الآتي من معركة مفتوحة وخطورتها وانعكاسها عليهم. ومن بقي من هؤلاء، يقاتل باللحم الحيّ، وكلٌ من موقعه، ويُسجّل على هؤلاء عدم التلاقي.

ثوابت المنطقة
أيّاً تكن نتائج المعارك الميدانية: سُحقت حماس أم لا. هُزم  الحزب أو العكس، فإنّ ما ينبغي التنبّه إليه هو أنه يوجد ثوابت في المنطقة من قبل وبعد هذه المعركة، لا يمكن لأحد أن يتجاوزها، وهي:
ـ إسرائيل وعنصريتها اليهودية.
ـ المسلمون أهل الأرض.
المسيحيون أمام أزمة مهولة. وأزمة كبيرة جداً. وهم بمواجهة أسئلة صعبة أكثر. والإجابة حتماً لن تكون ولا تصلح أن تكون بمزايدات محلية.
المسيحيون وحدهم يذوون، وغير موجودين. تحالف الأقليات الذي ذهبوا إليه مع الحزب يستفيد منه الحزب حصراً، بحكم الأوزان. لقد صدق نابليون بونابرت عندما قال: “إنّ الله مع المدفع الأقوى”.

الحلقة الرابعة: المطلوب من الموارنة بإلحاح.. أين دوركم؟

 

Exit mobile version