غزة | ماذا تعني المجزرة العائلية؟ أتفهمون ماذا يعني هذا التركيب اللفظي الذي يتكرّر على أسماعنا منذ 23 يوماً؟ فجر يوم الأحد، لم أفهم ذلك، بل جرّبته. كانت عائلةً مكوّنةً من سبعة أفراد: أختي الدكتورة إيناس، وزوجها ابن خالتي الأستاذ وائل طموس، وأبناؤهما الخمسة خليل ومحمد وحمزة وريما وزينة، اضطرّت للنزوح في اليوم الثالث من الحرب، من منزلها في حي الكرامة، بعدما اشتدّ القصف المحيط بها، وتهدّمت بعض جدران المنزل على رؤوس أفرادها، إلى مخيم خانيونس، حيث تسكن خالتي وزوجها، رفقة ابنهما الأصغر مصطفى، وزوجته وأربعة من أبنائه.
كان الخبر الأول الذي قرأته عيناي بعدما عادت شبكات الاتّصال عقب يومَين من الانقطاع: “ارتفاع عدد الضحايا في قصف منزل عائلة طموس في مخيم خانيونس إلى أربعة شهداء وعشرين مصاباً”. أعرف ذلك المخيم بيتاً بيتاً. كانت رحلة الطفولة المفضّلة، هي أن أذهب من حيث أسكن في أقصى شمال قطاع غزة، للمبيت في أقصى جنوب القطاع، في الإجازة الصيفية. وإذ أدرك أنه لا بيت لعائلة طموس سوى لأقاربي هناك، فقد علمت سلفاً أن القصف لن يبقي أحداً من سكّان المنزل الأربعة عشر حياً، هذا إذا لم يقضِ على العشرات من سكّان المخيم ذي البيوت الصغيرة والمتلاصقة.
كلّ الأخبار تبدأ باردة: مجرّد قصف تسبّب ببضع إصابات، ثمّ تتضح التفاصيل المهولة بعد عدّة دقائق، إلا عندما يتعلّق الأمر بك، ببضعة من دمك ولحمك، فإن الخبر يبدأ بهول من الوجوم ثمّ البكاء والصراخ، ولا سيما أنك تعرف سلفاً، أن وزن القنابل التي تُلقى على البيوت، يتجاوز حجم المنازل الصغيرة بعشرات المرّات. في مخيم خانيونس مثلاً، يمكن أن تتسبّب قنبلة يدوية لا يتجاوز حجمها الكيلوغرام الواحد، بقتل عشرة أفراد. يتكدّس الناس في منازل، كانت قبل سنوات مشيّدة من الصفيح، ثمّ ساهم التمدّد العائلي في تحويلها إلى طبقات شُيّدت بالإسمنت بأكثر الطرق بدائية على الإطلاق: لا قواعد ولا أعمدة، ولا مهندس أنفق شيئاً من وقته في توزيع الأحمال، بل سقف تحمله الجدران المبنيّة من الطوب القديم لا يتجاوز سمكه الـ10 سم. وحين تُلقى على بناءٍ كهذا، قنبلة وزنها 1000 كيلو من المتفجّرات، فإنه من المحال أن يبقى في البيت والمنطقة أيّ أحياء.
استشهدت زوجة مصطفى وأبناؤها الأربعة: “هم يسكنون في الطبقة الثالثة من المنزل، وكان من السهل الوصول إليهم في الدقائق الأولى”. قال الجمع العائلي الذي ينتظر بفضول المفجوع. ثمّ ارتقى وائل وواحد من أبنائه. هذا هو الخبر الثاني. أمّا الثالث الذي وصلنا عبر رسالة “إس أم أس” فهو أن خليل ومحمد ووالدهما ارتقوا إلى السماء، فيما نجت ريما وزينة وإيناس، وأحاط الغموض بمصير آخر العنقود حمزة. لهج الجميع ببكاء أشبه بالدعاء: “أبقِ لها حمزة يا ربّ… واحد فقط”، ليهبّ والدي، أي جدّ الأولاد، معترضاً: “هل نملي على الله ما يقضي… ماضٍ فينا حكمه… فليأخذ من دمنا حتى يرضى”. قال ذلك وأجهش بحمدٍ كالنحيب.
لا شيء منطقياً في كلّ ما حدث، إلا أن تستشهد تلك العائلة. أمّا لماذا؟ فلأن أفرادها مناسبون جداً للاستشهاد، لفكرة الاصطفاء والاتخاذ التي نؤمن بها جميعاً: “ويتّخذ منكم شهداء”. عائلة وادعة جداً، نقية مثل مطرٍ لم يلامس أرصفة، بسيطة وراقية، دائمة الإنجاز والاحتفاء بالنجاحات، نحتفي بها دائماً مثلما يحتفي الفلاحون بغلّات القمح في كلّ عام. تحب الله كما يحبه المتصوّفون، هكذا، من دون تنطّع ولا تشدد. لا شيء يشغل أبناءها، إلى جانب دراستهم ومواهبهم الفريدة، سوى القرآن، والحب الشديد لتفاصيل الحياة الطيّبة التي يحيونها. لم أجد عائلة في حياتي، مفتونة بحفظ القرآن وتلاوته كما عائلة “أبو خليل”. لقد حفظ أبناء أختي الثلاثة القرآن بعد مثابرة استمرّت لعامين، ثمّ شرع خليل الذي يفرط في الاهتمام بأناقته ومظهره و”ماركة” عطره، وهو ابن المرحلة الثانوية العامة، في دراسة أحكام تلاوة القرآن وقراءته، إلى جانب انهماكه بإتمام مراحل شهادة “التوفل” في اللغة الإنكليزية، وتمكّنه المهول من لغات البرمجة والحاسوب.
أخوه محمد، الذي يشبهني كثيراً، في شكله وهيئته واهتماماته، فقد حفظ القرآن أيضاً، وشرع منذ عامين في كتابة الشعر والخواطر الأدبية. كان الجميع ينادونه بـ”يوسف”. قالت لي أمّه إنه يكتب إلى جانب اسمه على كرّاسات الدراسة، لقبه المفضّل “يوسف”. ثالثهم، حمزة، هو هدية السماء، والذي يضفي دائماً جوّ الطرافة الآسر للقلوب، عاقلٌ جداً، ومشاغب بهدوء. قالت لي والدته إنه يخوض منافسة “غير نزيهة” في المحافظة لأكبر مدى متّصل على صلوات الفجر وحلقات قراءة القرآن التي تُعقد حتى الشروق في مسجد الحيّ. ولأجل الإبقاء على تمايزه عن إخوته، كان يضبط المنبّه قبل موعد الأذان بنصف ساعة، يصحو مبكراً، يتوضّأ، يستغفر الله بلهجة العجائز، ثمّ يستغلّ فرصة نوم أخيه الأكبر، ليُغرق نفسه من “ماركة” عطر خليل المفضّل، والتي يشتريها الأخير من مصروفه المدرسي، ثمّ يهمّ بالذهاب إلى الصلاة. وقبل خروجه، يتأكّد من أنه أطفأ منبّهات أخويه، كي يسجّل في جدوله أنه صلّى الفجر والتزم بحلقات التلاوة دوناً عنهم. أمّا والدهم وائل، فهو أساس هذا الزرع، طيّب وشهم ورجل كما ينبغي للرجولة أن تكون، حنون وخلوق ومتديّن. عايشناه طول عمرنا، ولم نرَ على وجهه سوى الابتسامة. لم نسمع منذ 25 عاماً أنه اختلف مع شقيقتي في أمر، أو أَحزنها في موطن، كان يحبّها بكلّ جوارحه.
في لحظة واحدة، هكذا بمنتهى البساطة، رحلت العائلة الجميلة، ورحلت معها الهموم البسيطة المتمثّلة في شراء أرض مخصّصة للبناء المستقلّ لتزويج الأبناء مستقبلاً، والخلاف اللذيذ حول التخصّص الذي ستدرسه ريما في الجامعة. رحلوا جميعاً: الوالد وائل، ووالدته فايزة، ووالده الحاج خليل، والأبناء خليل ومحمد وحمزة، وزوجة الأخ سمر حجازي وأبناؤها الأربعة: خليل ومحمد وسوار وشذى، فيما بقيت ريما وزينة ووالدتهما إيناس التي أطبق عليها سقف البيت الملتهب، وكسر عنقها الطوب، وشجّت رأسها جسور الحديد. انتهى الأمر. نحن الآن لا نحاول تكذيب الأمر. لا ترف لأجل أمر كهذا أصلاً. بدأنا نبحث عن طريقة نلتهم فيها مساحة 30 كيلومتراً من شمال القطاع إلى جنوبه، من أجل أن نحظى بقبلة واحدة على رؤوسهم. بحثنا عن غالون واحد من الوقود، لم نَجد. أصلاً لا وقت لذلك، لقد دُفنوا جميعاً، بعد أقلّ من ساعة على استشهادهم، لأنه لا متّسع لترف الوداع. وها نحن حتى اللحظة نبحث عن الطريقة التي سنخبر بها “إيناس” بأن فقرات عنقها وظهرها ورأسها الذي شُجّ من نصفه، هي أقلّ الأوجاع التي ستنتظرها في قادم الأيام.