ما صار واضحاً، منذ 7 تشرين الأول / أكتوبر، يحسم عناصر عدة في النظرة إلى كيان العدو. فقد تعرّضت المؤسسات المركزية في القرار الإسرائيلي لهزّة كبيرة، وفقدت أجهزة الاستخبارات ثقة قسم كبير من الجمهور، وقسم كبير من القيادة السياسية، والأهم أن صورتها اهتزت لدى شركائها أو حلفائها في الاستخبارات الغربية، كما مستواها تدنّى درجات في عيون نظرائها من أعدائها. ومسألة الاستخبارات تمثّل نقطة مركزية في كيان يقوم استقراره على قاعدة رئيسية تتمثّل في دور قواته الأمنية والعسكرية. واهتزاز الثقة، جعل العدو يبدو، في نظر شعبه وأولياء أمره، في حال يُرثى لها. صحيح أن الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، تحرّك سريعاً لاحتواء الموقف، لكن ذلك حصل بالتزامن مع ارتفاع الصراخ بين قادة العدو وجمهوره. وهذه المرة الأولى التي تطلب فيها إسرائيل عوناً من هذا النوع، وهي في مواجهة مع منظّمات حزبية مقاتلة لا مع جيوش أو دول، تماماً كولد أرعن تعرّض لصفعة أفقدته وعيه، فلم يقوَ على الوقوف من دون مساعدة. إلا أنه لم يكتف بذلك، بل يطلب ممن ساعدوه أن يبقوا إلى جانبه لأنه غير واثق من عدم السقوط مجدّداً. هذه هي حال إسرائيل التي طلبت، خلال 24 ساعة، أن تأتي أميركا بكل ما يمكن لمساعدتها: مليارات الدولارات على عجل، فتح المخازن الإستراتيجية لنقل الذخيرة من دون سقف ومن دون تحديد وجهة الاستعمال، وفوق ذلك، إرسال جيوش إلى الساحل الفلسطيني لطمأنة الكيان بأنه ليس متروكاً لقدره.
ربما يقال إنه ليس من مصلحة الأميركيين والغرب انهيار إسرائيل، وخسارة هذا الاستثمار الكبير. لكن/ ينبغي التنبّه إلى أن ما يجري الآن، هو أن إسرائيل تقول لنفسها أولاً، ولرعاتها وحلفائها ثانياً، ولخصومها وأعدائها ثالثاً، إنها ليس في وضع يمكنها فيه إدارة أمورها بنفسها. وهذا يعني، عملياً، ليس فقط دخول القادة الأميركيين السياسيين
والعسكريين إلى غرف العمليات السياسية والعسكرية، بل يعني أيضاً أننا أمام اختبار نادر حيال فكرة أن إسرائيل لم تعد قادرة على الصمود من دون وجود مباشر للولايات المتحدة.
في هذا السياق، يعرف الجميع أن ما تطلبه إسرائيل من أميركا وحلفائها يتجاوز توفير الغطاء لجنونها الدموي ضد أبناء غزة، ليلامس توفير المناخ الإقليمي السياسي والعسكري الذي يتيح لها تنفيذ جريمتها من دون التعرّض لأخطار إضافية. وبهذا المعنى، وفّر الأميركيون الضغط الكبير على كل العواصم في المنطقة، ومنعوا الحكومات من الإقدام على أي خطوة تضعف الموقف الإسرائيلي، وواصلوا دعمهم للعمليات الإجرامية من دون الاهتمام بأي سردية أخرى. لكن الأهم هو أن الولايات المتحدة وجدت نفسها، للمرة الأولى، معنية بتوفير العناصر اللوجستية والعسكرية لضمان عدم توسّع الحرب. وبهذا المعنى، يُفهم بصورة جيدة أن الوجود العسكري الأميركي الحالي، وإن كانت وظيفته ردعية، إلا أن حاجة إسرائيل إلى البقاء ستحوّله إلى سلاح هجومي في لحظة معينة. أي إن أميركا تقف الآن، ليس أمام مشهد اختبار هيبتها في المنطقة، بل أمام استحقاق أن تجرّها إسرائيل، بطريقة أو بأخرى، لتكون في قلب معركة لا يمكن لأحد توقّع طبيعتها وحجمها.
والظاهر، ان الاميركيين، ادركوا ان الدفعة الاولى من التعزيزات العسكرية لم تجد نفعا في ردع محور المقاومة، فقرروا ارسال المزيد. ولم يعد الحديث يقتصر على حاملتي الطائرات «فورد» و «ايزنهاور» بل اعلن امس عن إرسال أكبر الغواصات الأميركية «أوهايو» الى الشرق الأوسط. كما اعلنت الولايات المتحدة ان قاذفة لانسر من طراز B-1 التابعة لسرب التزود بالوقود الجوي، بدأت القيام بمهامها في المنطقة. وقد صُممت هذه المهمة لتأكيد سرعة الحركة وقابلية التشغيل بين الولايات المتحدة وشركائها، مع إظهار قدرة الجيش الأميركي على الاستجابة للأزمات والطوارئ عبر مسارح العمليات.
بهذا المعنى، يجب التوقف ملياً عند التشريح السياسي الذي قدّمه نصرالله في خطابه الجمعة الماضي. وهو خطاب مدروس بعناية، لأنه يحمل عنواناً جديداً للمواجهة، يتلخّص بأن المعركة الآن باتت مركّزة أيضاً على الاحتلال الأميركي الآيل إلى التوسع في المنطقة. ففي حين كان محور المقاومة يدرس كيفية طرد ما تبقّى من قوات أميركية في سوريا والعراق، يجد نفسه الآن مضطراً للأخذ في الاعتبار أن المواجهة توسّعت لتشمل القواعد العسكرية الأميركية المتنقّلة في البحر، أو تلك التي يُتوقع أن تقام داخل كيان الاحتلال في وقت قريب. وهذا يعني أن موجبات المعركة الكبرى، وإن كانت في الأصل تضع العامل الأميركي في الحسبان، صارت مضطرة اليوم للتعامل مع هذا العامل باعتباره شريكاً فاعلاً ومباشراً في الحرب التي تشنّها إسرائيل.
بناءً عليه، فإن سياق المرحلة الجديدة التي أشار إليها السيد نصرالله يتصل بمهام متنوّعة، فيها ما هو ساخن ومتصل بما يجري في الحرب على غزة، حيث يبدو أن المقاومة في لبنان قررت تطوير نوع المواجهات مع قوات الاحتلال على الحدود الجنوبية للبنان، وفتح الباب أمام أسلحة وتكتيكات جديدة ستظهر في الميدان، إضافة إلى الاستعداد وإظهار الجهوزية الكاملة لاحتمال تدحرج الأمور، جدياً، إلى مواجهات أوسع من تلك القائمة الآن مع قوات الاحتلال. لكن الأهم، هو إعادة تنظيم آليات عمل قوى محور المقاومة مجتمعةً، في سياق إنهاك العدو ومنعه من القضاء على المقاومة في غزة، وإشعاره بأن الدعم العسكري الأميركي لا يوفّر حماية جدية له. والأهم من ذلك هو دفع الأميركيين إلى إعادة النظر في أصل وجودهم هنا، والأخذ في الاعتبار أن ما سيتعرضون له من جانب قوى محور المقاومة، لن يكون أقل مما يفيد في طرد الاحتلال الأميركي من المنطقة.
وتنبغي الإشارة هنا إلى أن من يفكّر الآن في أن ضرب الاحتلال الأميركي يمثل بحد ذاته ضربة قاسية وربما أكثر من ذلك للعدو الإسرائيلي، عليه أن يفكر بطريقة إدارة العملية. وإذا كان القرار واضحاً، وإرادة القتال حاضرة، وربما الإمكانات كافية، إلا أن الأهم، هو وضع آلية تسمح بتنفيذ هذه المهمة الكبيرة، بأكلاف محسوبة بدقّة، وبما لا يتيح للأميركيين أن يتحولوا إلى مجانين أكثر من مجانين إسرائيل. وهذه الحسابات المطلوبة لا تعني التراجع أو الارتداع. وربما هذا ما يشكّله جوهر خطاب نصرالله الأخير، لأن من فكّر بأن حزب الله مرتدع وخائف من الدخول في مواجهة شاملة، ليس موجوداً حكماً في مركز القرار سواء في الولايات المتحدة أو في ما تبقّى من غرف قيادة إسرائيلية.
أما الذين كانوا ينتظرون من السيد نصرالله أن يخرج عليهم ليقول لهم: انظروا إلى حاملة الطائرات تحترق، فعليهم التروّي قليلاً، وانتظار ما سيقوله الرجل السبت المقبل. لكن الأهم، عليهم الاستعداد لجولة أقسى من الحرب المفتوحة مع الاحتلال الأميركي وكل أدواته وأذرعه العسكرية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية والمدنية، وهي أدوات عليها أن تقرر سريعاً في أي جبهة تقف، لأن معركة تحرير فلسطين لم تعد ترفاً أو خيالاً، وهي حكماً ستجرف معها الغزو الأميركي لمنطقتنا ومحو آثار احتلاله القائمة في بلادنا، على أكثر من صعيد.