الغرب وغزّة… وصناديق 2024 الانتخابية

محمد قواص* -أساس ميديا

على الرغم من “تسونامي” الدعم الغربي شبه الشامل لإسرائيل منذ عملية حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول الماضي)، يصدر من الدوائر الإسرائيلية (الإعلامية والمثقّفة إضافة إلى السياسية) عتب على واشنطن والعواصم الغربية بسبب ما يعتبرونه ضغوطاً تمارَس على إسرائيل للتخفيف من هجومها على قطاع غزّة و”التمييز بين الإرهابيين والمدنيين”. بمعنى آخر، تعتبر إسرائيل هذا الدعم واجباً عاديّاً، لكنّها هذه المرّة، وبسبب “11 سبتمبر الإسرائيلي”، تطالب بأن يكفّ الأصدقاء عن التماس التحفّظ والتروّي والدقّة في استهداف العدوّ.

تنهل إسرائيل حجّتها من تاريخ لا ينضب ارتكبت فيه الدول الغربية مجازر وانتهاكات أو تورّطت بشكل غير مباشر في بعضها، سواء في الزمن الاستعماري القديم أو حتى بتلك الإبادة الجماعية الحديثة في رواندا (اتّهامات لفرنسا بالتواطؤ) أو حتى ما ارتكب من انتهاكات منذ أكذوبة امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، وهي أكذوبة اعترفت بها واشنطن وأقرّت بها لندن، انتهاء بعمليات قتل جرت في هذا البلد وأفغانستان.

تعتبر إسرائيل أنّ كارثتها هي أقسى من كارثة دمار البرجين في نيويورك في أيلول 2001 إذا ما قورن عدد السكان بينها وبين الولايات المتحدة. وتعتبر أنّ “حملتها” في غزّة لا تقارَن بما ذهبت إليه الولايات في “حملتها” التي أدّت إلى إسقاط نظامين سياسيَّين واحتلال بلدين. ووفق هذه السردية يعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو في 18 تشرين الأول أنّ مقتل 1,400 إسرائيلي في يوم واحد يعادل مقتل 50 ألف أميركي وفق معادلة النسبة والتناسب.

يقدّم الكاتب الأكاديمي والأستاذ في جامعة SAOS في لندن الدكتور جلبير الأشقر معادلة تقوم على نسب نتانياهو في علم الرياضيات. يقول في منشور على موقع “X” إنّه من 7 إلى 29 تشرين الأول قُتل 8 آلاف غزّيّ، وإنّ هذا العدد يعادل وفق المعادلة النسبية لنتانياهو مقتل 1,158,261 أميركياً بما يعادل 386 ضعف عدد من سقطوا في “11 سبتمبر” الشهير.

سكّين “الهولوكست”… في الجرح الغربي

ليست حرب الأرقام على رادارات مؤسّسات الحكم والسياسة والإعلام لدى الدول الغربية. صحيح أنّ هناك “شوارع” في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا وغيرها تتحرّك دعماً للفلسطينيين في غزّة واستنكاراً للحرب التي تشنّها إسرائيل، لكنّ ذلك لا يغيّر الشيء الكثير في إرادة عواصم القرار التقدّم بواجهة أخرى لدعمها لإسرائيل ونسخ جديدة لسرديّاتها. وعلى الرغم من الدعم الذي تحظى به إسرائيل من قبل معظم قادة الأحزاب السياسية ومعظم نخب الفكر الغربيين، وإن بنسب ونصوص متفاوتة، إلا أنّ إسرائيل والمدافعين عنها ما زالوا يطالبون بالمزيد محرّكين سكّين “الهولوكست” في جرح غربي قديم ممنوع أن يندمل.

اللافت أنّ كبار الخبراء الغربيين يحلّلون المواقف العربية والإسلامية وتحرّكات المزاج العامّ في هذه المناطق تحليلاً علمياً في سياق التحوّلات الجيوسياسية. غير أنّها جميعها تقريباً تنطلق من سوابق في هذا المجال لم تغيّر شيئاً من الأمر الواقع الإسرائيلي، ويعتبرون أنّها لن تغيّر شيئاً من هذا الثابت.

لئن يفرد الإعلام الغربي الصفحات للمعارضين لإسرائيل ويفتح برامجه الحوارية أمام ممثّلي فلسطين أو المناصرين لها، غير أنّ الأمر يجري وفق خدعة “الرأي الآخر” الهامشيّ الذي يتيح المنابر واسعة أمام الرأي الخشبي المدافع عن إسرائيل وحقّها في الدفاع عن النفس والمطالب بواجب تفهّم ذلك مهما كانت خسائر الطرف الآخر.

أسئلة القيم الغربية

يسهل جداً لمتابع الجدل في أوروبا أن يستنتج نقاشاً حول مفهوم “الأخلاق” في السياسة وأزمة الانسداد في تفسير الحاضر والتاريخ. صحيح أنّ تشهد وسائط الإعلام الاجتماعي تشهد آراء ووجهات نظر ومواقف صادرة عن مواطنين ونخب داخل المجتمعات الغربية مناصرة لغزّة، إلاّ أنّ المسألة باتت تطرح أسئلة حول الهويّة ومعنى الأمّة وشروط الوحدة ليس فقط في الموقف من فلسطين بل في الموقف الحقيقي من القيَم الجامعة لقيام الدولة / الأمّة ثمّ تعايشها جميعاً تحت سقف الاتحاد الأوروبي. والأمر يعيد قراءة القيَم الغربية المتناسلة من فلاسفة اليونان القدماء، والتي في ليبراليتها وديمقراطيتها وتبنّيها لشرعة حقوق الإنسان تمتدّ إلى خارج هذا الاتحاد، نحو دول أوروبية أخرى، باتجاه الجانب الآخر من المحيط في الولايات المتحدة وكندا وصولاً إلى أستراليا والجوار.

في ما عدا فلاسفة اليسار التقليديين وقادته في أوروبا والولايات المتحدة الذين على منوال نعوم تشومسكي ما برحوا ينتقدون العقل الغربي والتصاقه بالرواية الإسرائيلية، فإنّ أحزاب اليسار التقليدي الاشتراكي أظهرت مخالب شرسة دفاعاً عن إسرائيل على نحو يعبّر، لا سيما داخل حزب العمال في بريطانيا بقيادة كير ستارمر، عن استمرار مأزق المسّ بمحرّم ما يزال يرتبط بالمحرقة اليهودية ومسؤولية أوروبا.

انتخابات 2024…

صحيح أنّ أصواتاً وازنة مثل ذلك الذي رفعه رئيس وزراء فرنسا الأسبق دومينيك دو فيلبان الذي على منوال ما صدر عنه في خطابه الشهير في مجلس الأمن المعارض للحرب ضدّ العراق عام 2003، طالب بجرأة بوقف المجزرة في غزّة. غير أنّ الخطّ المؤسّساتي الغربي، حكماً وأحزاباً وإعلاماً، لم يتأثّر حتى الآن على نحو نوعي بالتحرّكات الشعبية التي تشهدها شوارع البلدان الغربية. وبدا أنّ “الاستبليشمنت” تتحمّل نشاز يسار راديكالي مثل جيريمي كوربن في بريطانيا وجان لوك ميلنشون في فرنسا وبيرني ساندرز في الولايات المتحدة على سبيل المثال لا الحصر.

يتصادف هذا الشلل مع إطلاق مخيّلة غربية لمقاربة أكثر حصافة للحدث مع حسابات انتخابية. في عام 2024 تخوض دول الاتحاد الأوروبي انتخابات البرلمان الأوروبي، وهي مؤشّر مهمّ للمزاج السياسي داخل كلّ دولة أوروبية. في العام نفسه أيضاً تخوض الولايات المتحدة الانتخابات الرئاسية. بدا أنّ تلك الاستحقاقات تسيطر على العقل الجمعي لساسة ضفّتي الأطلسي على النحو الذي يجعل من حسابات صندوق الاقتراع رادعاً لأيّ تفكير من خارج أيّ صندوق.

Exit mobile version