القاضي الدكتور حاتم ماضي-اللواء
يخبرنا المؤرخون، والتاريخ يكتبه عادة المنتصرون أن العالم شهد عشية الحرب العالمية الثانية حروبا واعتداءات رافقتها جرائم لا انسانية وقد ذهب ضحيتها ما يزيد عن 19 مليون قتيل و45 مليون جريح.
كانت ابرز هذه الجرائم هي تلك التي ارتكبها الجيش النازي الألماني وكانت بهدف التطهير العرقي اذ عمد الى احراق عدد كبير من اليهود في محارق سميت «هولوكوست»، وعزل العديد من هؤلاء الأشخاص في أماكن تسمى «غيتو».
هذه الجرائم التي اتسمت بالفظاعة والبربرية اثارت غضب الرأي العام العالمي واثارت الخوف من تكرارها في أوقات وأماكن أخرى سيما وأن غرب أوروبا وبعض دول العالم كانت تعيش حالة استعداد نفسي لوقوع حرب جديدة. أضف الى كل ذلك أن بعضا من زعماء الدول بدأوا عمليات توسع واحتلال أرض دول مجاورة.
بالنظر لما أحدثته هذه الجرائم من بشاعة هزت الضمير البشري تنادى سكان الأرض للمطالبة بوضع مشروع يتضمن المطالبة بمحاكمة أعضاء الحزب النازي عن الجرائم التي ارتكبها وكذلك لتحديد مفهوم جريمة الحرب. وبالفعل وضعت لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة المبادىء الشرعية التي اسست لإنشاء محكمة «نورمبرغ» التي بدأت النظر بالدعاوى بواسطة محكمة عسكرية دولية IMT التي اقرها مؤتمر لندن في العام 1945.
وقد حاكمت هذه المحكمة مسؤولين نازيين كبار عن جرائم ضد الإنسانية وضد السلام وجرائم حرب وعن كل الجرائم التي لا يرتكبها بشري. واصدرت في العام 1946 احكاما بإعدام 12 مسؤولا عن هذه الجرائم من كبار القادة السياسيين والعسكريين والقضائيين والإقتصاديين.
وعلى المقلب الآخر من الكرة الأرضية وبعد هزيمة اليابان وتوقيعها على وثيقة الإستسلام في ايلول 1945 اصدر القائد الأعلى لقوات الحلفاء في الشرق الأقصى الجنرال الأميركي «مارك آرثر» إعلانا بتأسيس «محكمة دولية» لمحاكمة مجرمي الحرب في الشرق الأقصى.
بعد انتهاء هذه المحاكمات انصرفت الأمم المتحدة الى تحديد الجرائم ضد السلام والجرائم ضد الإنسانية فكان نظام «المحكمة الجنائية الدولية» للمساعدة في منع الحروب مستقبلا والحفاظ على السلم والأمن الدوليين وحفظ حقوق الإنسان.
لكن جنوح بعض الدول القوية للإفلات من المساءلة والعقاب شجع الدول الكبرى لعدم الإنضمام لهذه المحكمة ولعدم تسهيل عملها كما حصل عندما انسحبت الولايات المتحدة الأميركية من ميثاق هذه المحكمة بعد أن رفضت التحقيق بجرائم الحرب في افغانستان.
وعلى الرغم من مرور 74 عاما على افتتاح محاكمات مجرمي الحرب في «نورمبرغ» وفي «طوكيو» وفي محاكم أخرى، مازال النظام الدولي يعاني اليوم ما عانته البشرية عشية الحرب العالمية الثانية واندلاع هذه الحرب وما خلفته من مآسٍ لا توصف. ولعل اكبر دليل على ذلك ما يحصل اليوم في مدينة غزة الفلسطينية من مجازر تقشعر لها الأبدان ترتكب يوميا ضد الأطفال والنساء وابادة عائلات بأكملها واستمرار هذه الأعمال الحربية البربرية ومجلس الأمن الدولي وبسبب حق النقض «الفيتو» الذي تمارسه الولايات المتحدة الأميركية لم يتمكن من اصدار قرار بوقف اطلاق النار. ولولا القرار الذي اتخذته الهيئة العامة ومع انه قرار غير ملزم فإنه يعبر عن صحوة عند معظم الشعوب والدول الصغيرة.
وكما انتصرت شعوب هذه الكرة للإنسانية ولحق البشر في العيش وراعتهم الجرائم التي وقعت ما دفعهم الى تأسيس محكمة «نورمبرغ». إن هذه الشعوب مدعوة اليوم لإنشاء محكمة «نورمبرغ» جديدة لمحاكمة النازيين الجدد عن جرائمهم ضد الأطفال وضد المدنيين ومنعهم من الإفلات من العقاب كي لا تساهم الشعوب في تدمير نفسها بنفسها لأنه وللأسف فإن الجو السائد اليوم شبيه بما كان سائدا عشية الحرب العالمية الثانية.
* مدعي عام التمييز سابقاً