على وقع العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، وانعكاساته المباشرة على لبنان، من خلال الجبهة الجنوبية “المشتعلة”، والتي تبقى مفتوحة على كلّ الاحتمالات، وفقًا للمعطيات على الأرض، ومواقف مسؤولي “حزب الله” وعلى رأسهم أمينه العام السيد حسن نصر الله، تبدو الاستحقاقات السياسية اللبنانية في “إجازة”، ولو أنّ الانقسامات “العموديّة” تبقى على حالها، بل إنّ التشرذم يبدو في خطّ تصاعديّ قد يكون مثيرًا للقلق.

يندرج في هذا السياق استحقاق الانتخابات الرئاسية، بعد عام كامل على وصول “فخامة الفراغ” إلى قصر بعبدا، خلفًا للرئيس السابق ميشال عون، والذي يبدو مؤجّلاً لما بعد الحرب الإسرائيلية على غزة، رغم الدعوات التي تصدر هنا وهناك للفصل بين المسارين، لكنّ استحقاقًا آخر يبدو “مفصليًا”، قد لا يندرج في السياق نفسه، إذ تصدّر “الأجندة” على مدى الأيام القليلة الماضية، مع بدء العدّ العكسي لانتهاء ولاية قائد الجيش العماد جوزيف عون.

هي باختصار فكرة “التمديد” لقائد الجيش، استنادًا إلى “الظروف القاهرة” التي يمرّ بها البلد، وضرورة منع الفراغ من “التسلّل” إلى المؤسسة العسكرية، مع ما تمثّله من “ضمانة” للبنانيين، فكرة طرحتها “القوات اللبنانية” على شكل اقتراح قانون، وتجاوزت من خلالها مبدأ “تشريع الضرورة” الذي تتمسّك به، فيما يتصدّر “التيار الوطني الحر” جبهة المعارضين لها، هو الذي بدأ “حملة استباقية” للمواجهة، بكلّ الوسائل المتاحة.

لكن، هل أصبح فعلاً التمديد لقائد الجيش تحصيلاً حاصلاً، ومسألة وقت، كما يوحي البعض؟ أين يتموضع باقي الأفرقاء من الملفّ؟ هل تؤيّد المعارضة مجتمعةً موقف “القوات”، وهل تشارك في جلسة تشريعية لإقرار اقتراح قانون بهذا الصدد، رغم أنّ ذلك “يناقض” بعضًا من مبادئها؟ وهل يدعو رئيس مجلس النواب نبيه بري أصلاً لمثل هذه الجلسة؟ وماذا عن موقف “حزب الله”، الذي يقال إنّه قد يمتلك “الكلمة الفصل”؟!.

في المبدأ، لا يخفى على أحد أنّ موضوع التمديد لقائد الجيش يثير انقسامًا في الداخل اللبناني، فمؤيّدوه وعلى رأسهم “القوات اللبنانية”، يعتبرون أنّه أكثر من مُلِحّ وضروريّ، وهو كذلك في الظروف العادية، فكيف بالحريّ في ظلّ “شبح الحرب” الذي يصرّ البعض على استحضاره في هذه المرحلة، فيما يعتبر معارضوه، وفي مقدّمتهم “التيار الوطني الحر” أنّ التمديد غير جائز، وأنّ البدائل متوافرة، بالاعتماد على الدستور.

يذكّر المحسوبون على “التيار الوطني الحر” باستحقاقات مشابهة مرّت في الفترة الأخيرة، من دون اللجوء إلى الطريق الأسهل، وهو التمديد، ومن دون أن تسقط أيّ من المؤسسات المعنيّة، فولاية المدير العام للأمن العام انتهت، وانتقلت صلاحيّاته للأعلى رتبة، ومرّت الأمور بسلاسة، وكذلك في حاكمية مصرف لبنان، حيث أراد البعض التمديد لرياض سلامة رغم كلّ شيء، بحجّة الحفاظ على الاستقرار النقدي، الذي لم يتأثّر بدوره.

بالنسبة إلى هؤلاء، لا شيء يمنع تكرار الأمر نفسه في قيادة الجيش، باعتبار أنّ الحديث عن فراغ في قيادة الجيش مردود لأصحابه، لأنّ لا فراغ في المؤسسات العامة، وخصوصًا في الأجهزة الأمنية، بل إنّ هناك خيارات عدّة على الطاولة لمنع الفراغ، تتناغم بمجملها مع الدستور والقوانين، من بينها انتقال الصلاحيات لمن هو أعلى رتبة، أو تعيين مجلس عسكري أصيل، أو بالحدّ الأدنى رئيس للأركان، وكلّها خيارات لا تزال تخضع للنقاش.

أما القول إنّ عدم التمديد لقائد الجيش يضرب الموقع الماروني الثاني بعد رئاسة الجمهورية، فيثير الاستهجان لدى المحسوبين على “الوطني الحر”، ولا سيما أنّ هؤلاء لم يبدوا مثل هذه “الغيرة” على الموقع الأول، وأسهموا في استمرار الفراغ، بل في التطبيع معه، علمًا أنّ مخالفة الدستور، والخروج على الثوابت والمبادئ، لا يمكن أن يعكس أبدًا “جمهورية قوية”، ولا أن يوجّه رسالة “حرص على المسيحيين”، وفق هؤلاء.

في المقابل، يعتبر المؤيدون لمبدأ التمديد، وعلى رأسهم “القوات اللبنانية”، أنّ “التيار الوطني الحر” يتصرّف مع المبدأ انطلاقًا من “النكايات السياسية”، فهو يتوخّى المصلحة الخاصة لا العامة، وبدل أن يخاف على الجيش الذي يمتلك من الرمزيّة ما يملك في أدبيّات الجمهور “العوني”، يسعى لتصفية حساباته “الشخصية” مع قائد الجيش، ساعيًا لـ”إزاحته” من المشهد، معتقدًا أنّه بهذه الطريقة، ينهي حظوظه الرئاسيّة التي تبقى الأعلى.

يرفض هؤلاء محاولة “التيار” القول إنّ “القوات” تخرج على مبادئها، بموافقتها على “التشريع” للتمديد لقائد الجيش، وهو ما رفضته حتى في أمور تعنى بشؤون المواطنين المباشرة، استنادًا لعدم اعترافها أصلاً بوجود ما يسمّى بـ”تشريع الضرورة”، مشدّدين على أنّ “الضرورات تبيح المحظورات”. لكنّهم يسألون في المقابل عن ثوابت “التيار”، الذي كان قبل أشهر قليلة يعتبر أي تعيين تقدم عليه الحكومة “جريمة وخطيئة”، فيما يدعو إليه اليوم صراحةً.

وبين موقفي “التيار” و”القوات”، تُطرَح تساؤلات عن مواقف القوى الأخرى، التي من شأنها “تغليب” كفة على أخرى، ولا سيما في ظلّ ما يُحكى عن أنّ رئيس مجلس النواب لن يدعو إلى جلسة، رفضًا لـ”مصادرة صلاحياته”، أو أن قوى المعارضة لن تخرج على “تشريع الضرورة”، ولو أنّها لا تعارض التمديد بالمُطلَق، إن وُجِدت صِيَغ أخرى، فيما يبقى “الغموض” موقف “حزب الله”، الذي يلتزم الصمت، ولا يعلن رأيه بوضوح من الملف.

يقول العارفون إنّ “حزب الله” يتريّث في حسم موقفه من الملف، لاعتبارات وحسابات كثيرة ينطلق منها في تحديده، ولاعتباره أيضًا أنّ “أولويته” اليوم في مكانٍ آخر، وتحديدًا في الساحة الجنوبية، وبالتالي فإنّ استحقاقات الداخل تستطيع أن تنتظر، ولا سيما أنّ البلاد لم تدخل بعد “ربع الساعة الأخير” قبل انتهاء ولاية قائد الجيش، والذي يُعتقَد أنّه سيفرز المواقف “تحت الضغط”، لتحكم الظروف طريقة التعامل مع الاستحقاق.

لكن بالانتظار، يقول العارفون بأدبيّات “حزب الله” إنّ الأخير ينطلق من أكثر من معطى في تحديد موقفه، أولها أنّ اقتراح القانون مقدَّم من كتلة “الجمهورية القوية”، المحسوبة على “القوات اللبنانية”، ما يثير الكثير من علامات الاستفهام عن إمكانية سيره به، وهو الذي ينظر إلى مواقفها الأخيرة في ظلّ اشتعال الجبهة الجنوبية بعين الحذر والريبة، من دون أن ننسى الخصومة “التاريخية” بين الجانبين.

أما الاعتبار الأهمّ الذي يوليه الحزب اهتمامه، فهو موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، فحتى لو اقتنع بوجوب التمديد لقائد الجيش، وهي فرضيّة قد لا تكون واقعًا، يُستبعَد أن يلجأ لمثل هذه الخطوة من دون “التفاهم” عليها معهما، ولا سيما مع باسيل، الذي يصرّ الحزب على “مراعاته”، خصوصًا بعد المواقف التي أخذها الأخير منذ بدء عملية “طوفان الأقصى”، والتي يعتبرها إيجابية ومسؤولة.

يتريّث “حزب الله” إذًا في حسم موقفه من قيادة الجيش، علمًا أنّه يعتبر أنّ “الكلمة الفصل” ليست عنده، بل عند الآخرين، وتحديدًا عند القيادات المسيحية التي يجب أن تتفق وتتفاهم على المسار الأفضل. من هنا، يبدو أنّ “التجاذب” على خلفية هذا الملف سيستمرّ في الأيام المقبلة، بانتظار أن تدقّ “ساعة الجدّ”، وعندها فقط توضع السيناريوهات على الطاولة، وتُفرَز المواقف، التي قد لا تتطابق بالضرورة مع تلك المعلنة اليوم، لدى أكثر من طرف!.