في الأسبوع السابع على بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والرابع على العملية البرية شمال القطاع، تبقى الأمور على حالها لدى صنّاع القرار في تل أبيب وواشنطن: رفع مستوى الضغط الميداني والسياسي والتهويلي، على أمل تحصيل أقصى ما يمكن من أهداف. لكن لا يوجد في الميدان، وفي ما يرِد من مواقف حركة “حماس” عبر التفاوض غير المباشر، ما يؤشّر إلى إمكانية تحقيق العدو أهدافاً ذات سقوف عالية. والحديث هنا لا يتعلّق باليوم الذي يلي الحرب، أو ما يُطلق عليه إستراتيجية الخروج السياسية التي كان يجب تحديدها قبل اتخاذ قرار الحرب نفسه، بل بالنتيجة ومنها الأثر المادي المباشر للقتال العسكري، والذي من خلاله فحسب، تُبنى المخارج السياسية.

إلى الآن، ثمّة إقرار إسرائيلي بعدم تحقيق تقدّم يُذكر على صعيد إنجاز غايات الحرب، وفق ما يرد تباعاً في الإعلام العبري، وآخره في صحيفة “هآرتس” التي كتبت، أمس، تقول: “يجب ألّا نخدع أنفسنا. فهي (حماس) ليست على وشك الانهيار”، في ما بدا ردّاً على ما ورد في الصحيفة نفسها قبل يوم واحد نقلاً عن مصادر عسكرية إسرائيلية قالت إنه “مع الحذر الشديد، يمكن القول إن هناك إشارات تضعضع في وضع حماس ميدانياً”. مع ذلك، وردت، أمس، على لسان رئيس أركان جيش العدو، هرتسي هليفي، تأكيدات لما سمّاها “نجاحات”، من شأنها أن تمهّد الطريق لكسر “حماس” في شمال القطاع، الأمر الذي يثير علامة استفهام حول وجود “نقطة انزياح” جديدة في الأهداف، إذ قال هليفي: “إننا قريبون من تفكيك المنظومة العسكرية (لحماس) في شمال قطاع غزة. لا يزال هناك عمل يتعيّن إنجازه، لكننا نقترب منه بنجاح”، مضيفاً أن “الجيش الإسرائيلي سيواصل عملياته داخل قطاع غزة، وسنستهدف المزيد من المناطق، ما يؤدي إلى القضاء بشكل منهجي على الضباط القياديين والعناصر والبنية التحتية (لحماس)”.

وإذ ظهر حديث هليفي التشجيعي وكأنه موجّه أكثر إلى الجانب الإسرائيلي من المتراس، وإن كان موجّهاً أيضاً إلى الجانب الآخر على سبيل التهويل، فهو لم ينجح كثيراً، كما يبدو، في توليد الانطباع المطلوب، خاصة أنه جاء بعد أن خيّب الجيش الإسرائيلي أمل جمهوره من المستوطنين، وأيضاً الراعي الأميركي، جراء الفشل الاستخباري المركّب في مستشفى “الشفاء”. أراد جيش العدو للصور التي ترد من المستشفى، من فوق الأرض ومن تحتها، أن تعيد إسرائيل إلى تموضع أفضل على الساحة الدولية في سياق الحرب، بما يؤدّي إلى إطالة أمد هذه الأخيرة أسابيع كثيرة إضافية لمواصلة الضغط على غزة. لكن في الواقع، لم يعثر العدو لا على مقرّات عسكرية، ولا معسكرات اعتقال تحت أرضية لأسرى إسرائيليين، ولا غرف قيادة وسيطرة لمقاومين، ولا قيادات أو عناصر من “حماس” يُعرضون بثيابهم الداخلية أمام الكاميرات بعد أسرهم. وبالتالي، كانت النتيجة من اقتحام المستشفى صفراً، بل جاءت عكسية وفي غير مصلحة العدو، الذي أعاد تأكيد فشله في 7 تشرين الأول، بحلّة جديدة.

في 7 تموز 2016، كتب نائب مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، والمسؤول عن السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، إليوت أبرامز، مقالاً مطوّلاً عن فشل الجيش الإسرائيلي في إلحاق الهزيمة بـ”حزب الله” عام 2006، وقال إن هذا الفشل هو الذي منَعَ الولايات المتحدة من تحقيق الأهداف السياسية المرسومة للحرب، في لبنان والمنطقة. وأشار أبرامز الذي اعتاد في حينه التنقّل بين واشنطن وتل أبيب، إلى أن “الإدارة الأميركية لم تشكّك في البداية في قرار (رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، إيهود) أولمرت، بالمبادرة إلى شنّ حرب. وكما هي الحال مع أغلب الدول الأوروبية، ودول عربية، افترضنا أن الجيش الإسرائيلي سيوجّه ضربة سريعة وقاسية إلى حزب الله، وهو ما كان سيعطي مزايا عدّة للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة”. كان موقف الولايات المتحدة شبه متطابق مع الموقف الإسرائيلي المعلن من الحرب، وتحديداً في ما يتعلّق بعدم العودة إلى “الوضع القائم” في لبنان، والذي تشكّل بعد انسحاب عام 2000، فيما تبيّن أن دولاً عربية كانت تنتظر هزيمة واضحة وحاسمة لـ”حزب الله”، حيث أيّد دبلوماسيون عرب، وبأعداد كثيرة، في محادثات مغلقة، عمليات الجيش الإسرائيلي.
عارضت الإدارة الأميركية وقفاً لإطلاق النار، لأنها أرادت ضربة قاصمة لـ”حزب الله”، واعتبرت أن أيّ وقف سريع لإطلاق النار، كان يعني تعذّر التوصّل إلى تغيير فعلي للوضع. وهو ما دفع وزيرة الخارجية الأميركية وقتها، كوندوليزا رايس، في 19 تموز 2006، إلى الرفض العلني لدعوة وقف القتال، ومن ثمّ تجديد موقفها هذا خلال مؤتمر روما في 26 تموز، والذي شهد “خطاب الدموع” لرئيس الوزراء اللبناني الأسبق، فؤاد السنيورة، علماً أنها كانت، قبل المؤتمر، قد أبلغت وزير الخارجية الإيطالي آنذاك، ماسيمو ديليما، بأنها ستقطع الطريق على أيّ بيان يدعو إلى وقف إطلاق النار. إلا أن الواقع الجديد بدأ يتّضح بعد مرور أسبوعين على بدء الحرب، وعجْز الجيش الإسرائيلي عن إلحاق الهزيمة بـ”حزب الله”، بخلاف ما توقّع الجميع. وفي الأسبوع الثالث، أخذ “الحلّ” الذي حاولت الولايات المتحدة دفعه قدماً في التلاشي، عندما تبيّن أنه لن يكون هناك نصرٌ إسرائيلي واضح، وأنه لم يعُد هناك حلفاء يساعدون في إيجاد تسوية تكون أفضل من العودة إلى الوضع القائم.

يتضمّن ما ورد في مقال أبرامز من العبر ما يكفي ليكون حضوره واجباً على طاولة التقدير. فعام 2023 في غزة، يبدو شبيهاً جداً بعام 2006 في لبنان؛ وأحد أسباب فشل المخطّطات الأميركية للحرب في هذا البلد الأخير، هو ما اعتبرته رايس فشلاً للسياسة الإسرائيلية وفقداناً للثقة بأولمرت، قائلة: “عندما كنا نلتقي به، اعتاد القول: أنا بحاجة إلى عشرة أيام أخرى من أجل إلحاق هزيمة حقيقية بحزب الله. لكن في اللقاء الذي يلي، أي بعدها بخمسة أيام، يعود ليكرّر الجملة نفسها. ومن ناحية عملية، لم يُبرز أيّ دليل على أنه بالفعل قادر على توجيه ضربة قاسية ومهمّة إلى حزب الله، حتى لو مُنح مزيداً من الوقت. هذه المسألة، تحديداً، هي النقطة الحاسمة التي قوّضت منطق استمرار القتال”.
ما الذي يحدث الآن في الغرف المغلقة بين تل أبيب وواشنطن بشأن حرب غزة؟ الإجابة تقديرية بطبيعة الحال، لكنّ المرجّح أيضاً في هذه الحرب، أن الجيش الإسرائيلي يحتاج إلى عشرات من الأيام الإضافية كالتي طلبها أولمرت، قبل أن يحقّق النتيجة التي يريدها، هو ورعاته الأميركيون.