الآراء التي ضجت بها مواقع التواصل، أظهرت نوعاً آخر من الصراع في “اسرائيل”. الصراع بين العقلاء والمجانين: “لقد حطمنا منازلهم وحطمنا قلوبهم، لكننا لم نتمكن من تحطيم أعصابهم”، “ما فعلناه أننا أضرمنا نيراناً هائلة في صدورهم . هذه النيران ستلاحقنا الى الأبد”، “آن لنا أن ندرك الى أين ينتهي بنا هذا الطريق … الدم بالدم”.

يقابل ذلك “لن نقبل فقط تجريدهم من السلاح، سنجردهم من أظافرهم، الأفضل من أرواحهم”، “اذا واصلت البطة العرجاء الضغط علينا فسندمر البيت الأبيض فوق رأسها”.

توماس فريدمان لا يخشى أن يكون اليهود أمام رجل مجنون بل أمام دولة مجنونة. المعلقون “الاسرائيليون” أثارت ذهولهم “الشراسة” التي يبديها المقاتلون الفلسطينيون في أرض المعركة، ان بمحدودية امكاناتهم أو بكونهم يقاتلون بين الجدران المدمرة، وفي حيّز جغرافي ضيّق ومحاصر من كل الجهات.

هذا ليذهبوا الى التساؤل “ماذا لو وقع جنودنا بين براثن حزب الله؟ حيث التضاريس الطبيعية المعقدة، وحيث الأنفاق التي حفرت في الجبال، في مواجهة مقاتلين خاضوا تجارب ميدانية مروعة. والأخطر أن هؤلاء، على خطى قائدهم نصرالله، يعتبرون دولتنا ويعتبروننا أوهى من بيت العنكبوت”!

ما شاهدناه وسط ذلك الخراب اللانهائي لا يدع مجالاً للشك في كون غزة “ستالينغراد العرب”. الماريشال جوكوف دوّن في يومياته ما قاله جنرال نازي وقع أسيراً في يد القوى المدافعة “لم نكن نتصور وجود ذلك النوع من البشر الذين كانوا ينقضون على الدبابات حتى بالسكاكين، وحتى بالقضبان الحديدية التي ينتزعونها من الأبنية المهدمة . هنا مشكلة الجنرالات في “اسرائيل”، وقد اعتادوا أن يفر الجنرالات العرب من أمامهم فور أن تظهر الطائرات الاسرائيلية في الجو”.

بعد الجلسة الأخيرة لـ ” الكابينيت”،  تحدث بنيامين نتنياهو عن الانتقال الى المرحلة الثانية من العمليات البرية ، ليضيف أن “الولايات المتحدة والعالم يمارسون علينا ضغوطاً هائلة، لكننا سنواصل الحرب” . صحيفة “وول ستريت جورنال”  كتبت “أن محادثات بايدن مع نتنياهو باتت أكثر توتراً، مع استمرار الأخير في رفض فترات هدن أطول”، ويمكن أن تمهد لوقف النار …

هذا ما يثير هلع “العقلاء” في “اسرائيل”، الى حد التساؤل “ماذا لو قرر بايدن وقف تزويدنا بالقنابل وبالصواريخ؟ وماذا اذا أمر حاملات الطائرات والبوارج والغواصات، بمغادرة المتوسط”؟ ولكن هل يتجرأ الرئيس الأميركي، وقد رشح نفسه لولاية ثانية، أن يواجه اللوبي اليهودي؟

لو حدث ذلك، وتبعاً لما يقوله معلقون “اسرائيليون”، لانقلب المشهد في الشرق الأوسط رأساً على عقب، ولكانت “اسرائيل” أمام اختبار وجودي، لعله الاختبار الأخير . الثابت أن لا بقاء للدولة العبرية من دون أميركا . لكن الرجل القابع في البيت الأبيض آت من تلة الكابيتول الذي بمثابة “الهيكل الثالث”. دوايت ايزنهاور الذي أرغم دافيد بن غوريون وموشى دايان (وما أدراك ما بن غوريون وما دايان!) على الخروج من سيناء عام 1956، أتى من النورماندي حيث الانزال الذي أدى الى تغيير مسار الحرب العالمية الثانية، بل الى تغيير مسار التاريخ .

اعتراف عبر صحيفة “هاآرتس” بأن الحرب ضد الفلسطينيين، وليست ضد أي حركة أو ضد اي فصيل . الصحيفة ترى أن هذه حقيقة لا يستوعبها نتنياهو، وهو يخطو خطوة خطوة في طريق الانتحار .

ولكن من هو الأكثر تأثيراً في الرأي العام “الاسرائيلي”؟ ما زالت التيارات المتطرفة تستقطب الأكثرية التي تمت تعبئتها توراتياً، على اساس أن الحرب الحالية هي ضد مَن يريدون ازالة اليهود من “أرض الميعاد”. في المقابل، ثمة مَن يرى أن رئيس الحكومة فتح باب جهنم، دون أن يتمكن من اقفاله . يلاحظون أن الغيوم تتلبد أكثر فاكثر في الضفة، التي اذا انفجرت تكون “اسرائيل” أمام خيارات في منتهى الخطورة .

أركان الادارة الأميركية يتوجسون من أن يحدث الزلزال الدموي في غزة، هزات ارتدادية يمكن أن تؤدي الى تغيير الخريطة الاستراتيجية للمنطقة، وهذا ما تحذر منه أجهزة الاستخبارات الأميركية والأوروبية .

لم يعد السؤال أي “اسرائيل” ـ وأي فلسطين ـ بعد غزة ؟ أي شرق اوسط بعد غزة؟