يبدو الكيان الاسرائيلي ضعيف الحيلة ومحدود الخيارات، على المستوى العسكري المحض، أمام حرب الاستنزاف التي استدرجه اليها «حزب الله» على الحدود مع فلسطين المحتلة، فلا يبقى أمامه سوى الاستهداف المتكرّر للمدنيين والصحافيين، من دون أن يكون قادراً على تغيير الواقع الاستراتيجي المُستجد الذي فُرض عليه في الشمال.
يستمر «حزب الله» في ادارة المعركة على الحدود الجنوبية وفق إيقاعه وأجندته، من دون أن يتأثر بالضغوط الجانبية من هنا أو هناك، محتفظاً في الوقت نفسه بالجهوزية الكاملة لسيناريو التدحرج الى الحرب الشاملة.
لم يستمع الحزب الى الذين طالبوه من اليوم الأول للعدوان على غزة بالانخراط في حرب شاملة، كما لم يستمع الى الذين حَضّوه من اللحظة الأولى على ختم الجبهة مع العدو بالشمع الأحمر.
منذ 8 اوكتوبر ينفّذ الحزب استراتيجية خاصة به، تتميز بالمرونة الميدانية والهوامش المتحركة تبعاً لمقتضيات المواجهة وَتطورها على الأرض، انما مع تفادي ان يكون البادئ في الانزلاق الى ما بعد حافة الهاوية، بل يمكن الاستنتاج عبر رصد مسار المعركة منذ بدايتها، أنّ الحزب يسعى الى أن يستثمر قوته القتالية على هذه الحافة حتى آخر سنتمر فيها، من غير ان يقفز فوقها، وهي معادلة يعتبر القريبون منه انها كناية عن خلطة تجمع بين الحكمة والحنكة.
أمسك «حزب الله» بنيامين نتنياهو من اليد التي تؤلمه، فهو مقيد الحركة شمالا وغير قادر على شن عدوان واسع ضد لبنان. أولاً لأنّ اولويته القصوى هي غزة التي يتخبط في رمالها المتحركة ويفضّل ان يتفرّغ لها قدر الإمكان، وثانياً لأنّ واشنطن تضبط انفعالاته وتلجم جموحه كلما بَدا لها انه قد يَجنح نحو خوض مغامرة عسكرية كبيرة، خصوصا انه ليس في مصلحة الولايات المتحدة توسيع الحرب لاعتبارات عدة، وهذا هو فحوى مهمة الموفد الأميركي آموس هوكشتاين الموجود في تل أبيب لضمان بقاء جبهة لبنان تحت السيطرة.
لا يمنع ذلك أنّ قيادة الكيان الاسرائيلي الفاقدة لتوازنها والمجروحة في كبريائها بعد عملية طوفان الأقصى قد تخرج عن حدود المنطق والضوابط، وتقرر الهروب الى الامام، في لحظة تهوّر غير محسوبة العواقب، وهو ما يتحَسّب له الحزب باستمرار، لكنها من حيث المبدأ مضطرة حتى إشعار آخر الى مواصلة «التعايش» مع الضربات التي تتلقّاها من المقاومة، ثم الانتقام بارتكاب جرائم تعكس العجز الميداني، وآخرها استهداف فريق قناة الميادين، علماً انّ عملية واحدة من تلك التي ينفذها الحزب منذ 8 تشرين الاول الماضي كانت كافية سابقاً لنشوب حرب كبرى.
يعرف الحزب نقاط الضعف في جسم العدو، سياسيا وعسكريا، وهو يشتغل عليها ويستَنزفها، مع حرصه في الوقت نفسه على أن لا تتحول المواجهة عند الحدود الى خط تماس تقليدي، يمكن أن يألفه الاحتلال ويتكيّف معه، وهذا ما يفسر ان المقاومة تتعمّد من حين الى آخر زيادة جرعة الضربات، كمّاً ونوعاً، على نحو ما حصل عبر الهجوم النوعي الذي شنّته على ثكنة برانيت في الجليل بواسطة صاروخي «بركان» كانا كفيلين بتدمير الثكنة وإيصال رسالة إلى تل أبيب بأنّ الحزب جاد في خوض معركة إشغالها واستنزافها وصولاً الى إيلامها وإنهاكها، خلافاً لما يروّجه البعض من أن قتاله شكلي ومن باب رفع العتب ليس إلا.
ومن المعروف انّ الحزب لم يستخدم بعد سوى جزء قليل من قدراته العسكرية، وهو لا يريد تحت الضغط ان يستعجل في لعب كل أوراقه، خصوصاً ان الحرب على غزة قد تطول.
واللافت انّ الحزب، وبعد مرور نحو 45 يوما على اندلاع حرب غزة، لا يزال المُمسك بزمام المبادرة عند الحدود الجنوبية. وبالتالي، لا يزال في موقع الهجوم والفعل معظم الاحيان، بينما يبدو العدو الاسرائيلي في موقع الدفاع ورَد الفعل.
ومن الواضح أنّ الحزب يصنع حالياً في الجنوب تجربة قتالية لا تشبه غيرها، بحيث انها تختلف عن تلك التي خاضها خلال فترة إنجاز التحرير من 1982 حتى 2000 وفي عدوان تموز 2006 والحرب السورية. ما يجري في الجنوب حالياً يبدو أقرب الى حرب مواقع تُخاض في الإجمال بين جيوش كلاسيكية وليس بين جيش ومقاومة. ولهذا احتاج الحزب الى بعض الوقت في البداية حتى تمكن من «رَكلجة» الجبهة والتكيّف مع متطلباتها المستجدة.
وأبعد من خط النار الذي ورث الخط الأزرق على امتداد الحدود، يمكن التقدير بأنّ الحزب استفاد على المستوى الاستراتيجي من مجريات عملية «طوفان الأقصى» ونمط الرد الاسرائيلي عليها.
وليس خافياً انه كان يخطط لِما يشبهها في الجليل، وبالتالي فإنّ هجوم حركة حماس على غلاف غزة ثم العدوان الوحشي على القطاع سيخضعان، بعد انتهاء الحرب، الى مراجعة على مستوى الحزب وكل محور المقاومة لاستخراج الدروس والبناء عليها مستقبلاً.