غزة | استحوذ الحديث عن التهدئة، في اليومَين الماضيَين، على المساحة الأكبر من وقت أهالي قطاع غزة، ولا سيّما النازحين منهم في مراكز الإيواء. وفي انتظار الوقت المتوقّع للبدء الفعلي بوقف إطلاق النار، مرّت الساعات ثقيلة على الناس، وسط مضاعفة المدفعية الإسرائيلية والطائرات الحربية من حدّة القصف. هنا، في شوارع مخيم جباليا، حيث الوقت من دمٍ، استوقف المارّة بعضهم بعضاً، متسائلين عن ساعة الصفر. لا شيء أهمّ لديهم من معلومة موثوقة تتيح لهم التحرّك بأمان. ثمّة أسئلة تشغل الإجابة عنها بالَ الجميع، تتمحور حول ما سيترافق مع وقف إطلاق النار المرتقب اليوم لمدّة أربعة أيام: هل ستتراجع الآليات المتوغلة عن المناطق التي وصلت إليها في أعماق الأحياء المأهولة؟ هل ستُفتح الطريق لعودة الأهالي من الجنوب إلى الشمال، أو للنزوح من الشمال إلى الجنوب فقط؟ وماذا عن المساعدات والوقود؟ هل ستصل إلى شمال القطاع؟ هل ستعاود المستشفيات المخلاة فتح أبوابها مجدداً في غزة والشمال؟ وأيضاً، ثمّة من يطرح توقّعات أكثر تفاؤلاً، من مثل أن يتطوّر وقف إطلاق النار المؤقت، إلى هدن أخرى تقود في نهاية الأمر إلى انتهاء الحرب كلياً.في العموم، ليست ثمّة أحلام كبيرة يسعى أحدهم إلى أن يحقّقها في الساعة الأولى لوقف إطلاق النار، وهو ما يدلّ عليه الحال مثلاً في مدرسة «جباليا الإعدادية للاجئين» التي تحوّلت إلى مركز إيواء يؤوي أكثر من 10 آلاف نازح، حيث التقت «الأخبار» العشرات من النازحين. بالنسبة إلى النازح سلمان حازم، فإن أولويته هي العودة إلى منزله في حيّ تل الزعتر المخلى. يقول لـ«الأخبار»: «إذا كان المنزل قائماً، فإن لديّ فرصة للاستحمام واستخراج ما فيه من مواد تموينية، ثمّ الاطمئنان على الأهل والجيران، لا معلومات لدى أحد عمّن بقي حيّاً أو استشهد. نحن مقطوعون عن العالم». أمّا وليد السيد، فهمومه أكبر من ذلك بكثير، إذ اضطرّ الشاب العشريني إلى ترك 15 من أبناء أسرته تحت أنقاض منزله في منطقة السكة شرقي مخيم جباليا، بعدما شرعت طائرات «الكواد كابتر» في إطلاق الرصاص على الأهالي حينما استطاع تدبير وقود لتشغيل الباقر الذي سيتولّى مَهمّة إزالة الركام لانتشال الشهداء. يقول السيد في حديثه إلى «الأخبار»: «كنتُ أسمع صوت أنين من تحت الركام، لديّ أمل في أنّ أختي الصغرى بشرى لا تزال حيّة. لكن داهمنا المساء، وبدأ الرصاص يحاصرنا من كلّ جانب. يعتريني شعور حادّ بالعجز والتقصير. كان من المفترض أن أبقى حولهم حتى لو كلّفني ذلك حياتي».

الآلاف هنا يشعرون أن أبناءهم وإخوانهم الشهداء لم ينالوا التشريف الذي يستحقّون في رحيلهم

بالنسبة إلى المئات من الجرحى الذين تمّ إخلاؤهم من مستشفيات «الإندونيسي» و«كمال عدوان» و«الشفاء»، وباتوا محرومين من أيّ مأوى أو رعاية، فإن الهدنة فرصة للخروج من مناطق شمال غزة إلى جنوب وادي غزة، أملاً في الحصول على الرعاية الصحية، بعدما توقفت كل المستشفيات العاملة في المناطق الشمالية. يقول الجريح محمود أكرم: «لم أستطِع تغيير ضمّادة جرحي منذ خمسة أيام. في ساقي أربعة جسور بلاتين، بدأ يخرج منها القيح»، فيما يشير الجريح محمود أحمد، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أن «الأمل الوحيد لإنقاذ قدمي ويدي من البتر هو أن يُسمح بتنقّل السيارات والإسعافات إلى جنوب القطاع. لا خدمات طبية في الشمال. من يُصاب هنا ينتظر الموت».
أحلامٌ أخرى تبدو أكثر تواضعاً، فالآلاف هنا يشعرون بأن أبناءهم وإخوانهم الشهداء لم ينالوا التشريف الذي يستحقّون في رحيلهم. الحاج أبو صلاح، الذي قضى اثنان من أبنائه شهيدَين رفقة زوجته وبنته الصغرى، يرى في أيام التهدئة فرصةً لاستعادة جثامين أحبّائه من المقبرة الجماعية التي دُفنوا فيها على عجالة قرب مستشفى «الإندونيسي»، ليواريهم الثرى في «مقبرة الشهداء» شرق مخيم جباليا شمال القطاع. يقول الحاج في حديثه إلى «الأخبار»: «لن يهدأ لي بال إلّا عندما أنقلهم إلى قبور خاصة بهم. سأقضي ما تبقّى من عمري، وأنا أزورهم في كلّ صباح ومساء، وأزرع النبات الأخضر والورود على أضرحتهم».
الأكيد أن الطريق إلى جنوب قطاع غزة سيكون مزدحماً، وأن أكثر الأُسر التي تشتّتت ما بين جنوب وادي غزة وشماله، ستسعى إلى لمّ شملها. وإذ يفضّل الكثيرون من النازحين إلى جنوب الوادي أن يعودوا إلى شماله، إلّا أن هذا الخيار دونه ما يفترضه الشارع من أن نصيب المناطق الشمالية من الحرب بدأ ينتهي، وأن ما تبقّى من عمر الحرب، ستتوجّه فيه العملية البرية إلى المناطق الجنوبية.