يَعتقد قادة «الغرب الجماعي»، وفي طليعتهم الإدارة الأميركية، أن في إمكانهم شنّ حرب إبادة على الشعب الفلسطيني بالشراكة مع وكيلهم الإسرائيلي، واحتواء تداعياتها السياسية والفكرية الطويلة الأمد على سمعتهم ومصالحهم و«قوتهم الناعمة» العتيدة، في الفضاء العربي – الإسلامي، وفي أنحاء المعمورة، بما فيها بلدان الغرب نفسها. لقد اتّضح، خلال الأسابيع الماضية، وبما لا يدعُ مجالاً للشكّ، أن حرب الإبادة المذكورة، أدت إلى انعطافة حاسمة في نظرة قطاعات وازنة عبر العالم إلى طبيعة الولايات المتحدة ومعسكرها الغربي، لا تقلّ جذرية عن تلك التي حصلت خلال السنوات الأخيرة لحرب فييتنام. سقط القناع مجدّداً عن وجه «الأميركي البشع» وأتباعه الغربيين، وتهاوى معه ما بقي من صدقيّة لخطابه عن الديموقراطية وحقوق الإنسان والقيم الكونية بالنسبة إلى الملايين التي اجتاحت شوارع مدن الكوكب، في إطار تحرّكات احتجاجية قلّ نظيرها في التاريخ السياسي المعاصر. وقد يكون أحد أكثر التعبيرات بلاغةً عن عمق هذه القطيعة الفكرية – السياسية وجذريّتها، إضافةً إلى التظاهرات المليونية المستمرّة تضامناً مع الشعب الفلسطيني ومقاومته، هو تفاعل ملايين الغربيين الإيجابي مع الرسالة التي وجّهها أسامة بن لادن إلى أميركا بعد هجمات الـ 11 من أيلول، منذ أكثر من 22 عاماً!أن تقوم هذه الملايين بربط الحاضر بالماضي، على وقْع حرب الإبادة الغربية – الإسرائيلية الراهنة، وأن تتفهّم في الحدّ الأدنى، دوافع مَن خطّط للهجمات المشار إليها، إنْ لم تقم بتبريرها ببساطة، بسبب هَول الجرائم الأميركية والإسرائيلية، هو أمر لم يخطر في بال صنّاع القرار الغربيين ولا مستشاريهم الأفذاذ، حتى في أسوأ كوابيسهم. لن يبقى الشرق الأوسط كما كان، بالنسبة إلى هؤلاء، ولا العالم، بعد محرقة غزة، وستَظهر مفاعيلها أمام أعينهم في المديات القصيرة والمتوسطة، ومَن يعش يرَ. لا يمكن فصْل عودة الحديث عن «حل الدولتين» من قِبَل مسؤولين أميركيين وأوروبيين، بعدما طواه النسيان قبل أكثر من عقدين، عن سياق احتدام المواجهة في فلسطين والإقليم، وما نجم عنها على الصعيد الدولي. هي محاولة من قِبَل إدارة محدودة الخيال والذكاء لتصفية المقاومة الفلسطينية في غزة بوسائل سياسية تتكامل مع تلك العسكرية المستخدمة ضدّها حتى الآن، ولإعادة إنتاج محور إقليمي إسرائيلي – عربي يعمل وفقاً لمخطّطاتها، والسعي لإعادة تلميع صورتها الملطّخة بالدماء.
العمل على تطبيع عربي – إسرائيلي من دون السعي لإيجاد «حلّ» للقضيّة الفلسطينية كان محطّ تفاخر مشترك بين بنيامين نتنياهو وإدارة جو بايدن. ظنّت الأخيرة أن في استطاعتها اعتماد سياسة «تخفيض توتّر» في المنطقة تقوم في حلقتها الفلسطينية على إبقاء سلطة رام الله على قيد الحياة، عبر تقديم مساعدات مالية لها في مقابل قيامها بدور وظيفي ضدّ منظّمات المقاومة، مع السماح لإسرائيل بالاستمرار بالاستيطان والضمّ والتطهير العرقي في الضفة الغربية والقدس، والمضيّ بحصار غزة مع إتاحة المجال للمساعدة المالية القطرية في مقابل «الحفاظ على الهدوء».كنّا في عالم ما قبل الـ 7 من تشرين الأول 2023. وقعت عملية «طوفان الأقصى» البطولية وتبدّدت معها جميع هذه الأوهام. اعتقد قادة المعسكر الغربي – الإسرائيلي أن إطلاق العنان للتوحّش الصهيوني المنفلت من عقاله، والشروع بعمليات إبادة لآلاف المدنيين الفلسطينيين سيكونان كفيلَين بهزيمة منظّمات المقاومة. لكن وقائع الميدان، وخاصة بعد بداية المعركة البرية، كذّبت مثل هذا الاعتقاد. الجيش الصهيوني يواجه حرب استنزاف عالية الكلفة في شوارع شمال القطاع وأزقّته، وتصعيداً متزايداً للمجابهة على الحدود مع المقاومة في لبنان. حاملات الطائرات والزوارق الحربية الأطلسية التي جرى حشدها في المتوسط لمساندة الكيان لم تمنع قوى المقاومة من الاستهداف المتصاعد لقوات الاحتلال الأميركي في العراق وسوريا، ولا قيام القوات المسلحة اليمنية بقصف جنوب الكيان بالصواريخ والمسيّرات، واحتجاز سفينة يملكها الملياردير الإسرائيلي أبراهام «رامي» أونغار. أمّا على الجبهة السياسية، فقد توقّف مسار التطبيع الرسمي بين السعودية وإسرائيل، وتشكّل موقف سياسي عربي – إسلامي رافض للعدوان على غزة تجلّى في البيان الختامي للقمّة العربية والإسلامية في الرياض. أما على الصعيد الشعبي، وفي أنحاء العالم، فإن الاحتجاجات المناهضة للعدوان الغربي – الصهيوني اتّسعت بشكل غير مسبوق.
انطلاقاً من هذه المعطيات، وأمام صعوبة الحسم العسكري على المديَين القصير والمتوسط، فإن الإدارة الأميركية ارتأت أن مخطّط تدمير المقاومة كخيار يَفرض اتّباع استراتيجية على المدى الطويل تقوم على الدمج بين أدوات عسكرية وسياسية واقتصادية. التلويح بالعودة إلى خيار التسوية على قاعدة «حل الدولتين» يهدف إلى تشكيل تحالف سياسي يضمّ السلطة الفلسطينية والدول العربية «المعتدلة»، يوافق على أن يساهم بالضغط على المقاومة لتقبل بتكوين سلطة بديلة في القطاع مرتبطة بالسلطة الفلسطينية، تكون شريكاً فيها من موقع أدنى في أحسن الأحوال، تدخل في مسار تفاوضي مع إسرائيل، في مقابل رفع حالة الحصار عنه. بكلام آخر، المطروح هو توريط هذه الأطراف في مشروع لتصفية المقاومة في غزة، مع وعد يلوح في الأفق، وهو حلّ يقود إلى قيام دولة فلسطينية. أما بالنسبة إلى الأراضي التي ستقام عليها هذه الدولة، ولحدودها ولمواردها وغيرها من القضايا ذات الصلة، فإنها «تفاصيل ستترك للمفاوضات». «رعاية الخداع»، وهو عنوان لكتاب مهمّ للمؤرّخ رشيد الخالدي حول الرعاية الأميركية لمفاوضات التسوية منذ «مؤتمر مدريد» في عام 1991، هي اختصاص أميركي، وإذا تورّطت أطراف فلسطينية وعربية مرّة أخرى في مثل هذه العملية، فإنها ستتحمّل تبعات وأكلاف سياسية وغير سياسية هي جميعها في غنى عنها. الأيام القادمة ستتكفّل بتوضيح الصورة بشكل أفضل. الأكيد أن قوى المقاومة التي نجحت في التصدّي لمخطّطات التصفية منذ «مؤتمر مدريد»، هي اليوم أقوى وأمنع بما لا يقاس، وستفلح في إفشال أيّ مخطّطات شبيهة.
شعار Yankee Go Home، «عد إلى بلادك أيها الأميركي البشع»، حفر عميقاً في وعي أجيال بعينها في ستينيّات وسبعينيّات وحتى بداية ثمانينيّات القرن الماضي، على خلفية الجرائم المروّعة التي ارتكبتها الولايات المتحدة في فييتنام وكمبوديا، وكذلك لدعمها الأنظمة الديكتاتورية العميلة في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا. ساهم هذا الوعي في خلْق أرضية مناسبة لنموّ حركات ثورية قامت بدور مناهض لهيمنتها، وتصدّت لمشاريعها في أكثر من بقعة من العالم، على الرغم من أن واشنطن كانت في أوج قوتها في تلك المرحلة التاريخية. هي اليوم تشهد انحساراً تدريجيّاً، ولكن مستمرّاً لهيمنتها، وصعوداً لدور منافسَيها الاستراتيجيَّين على المستوى الدولي، وعداءً متأجّجاً لها ينتشر عبر العالم كما النار في الهشيم، على خلفية مشاركتها في حرب الإبادة ضد غزة. الفارق الوحيد ربّما هو في مستوى حدّة العداء لسياساتها، إلى درجة أن الملايين من مواطنيها ومن مواطني الغرب، باتوا يتفهّمون، ليس مجرّد مقاومتها في البلدان الخاضعة لهيمنتها، بل كذلك مهاجمة رموز سطوتها على أراضيها، كما حصل في يوم مشمس من أيلول 2001.
العمل على تطبيع عربي – إسرائيلي من دون السعي لإيجاد «حلّ» للقضيّة الفلسطينية كان محطّ تفاخر مشترك بين بنيامين نتنياهو وإدارة جو بايدن. ظنّت الأخيرة أن في استطاعتها اعتماد سياسة «تخفيض توتّر» في المنطقة تقوم في حلقتها الفلسطينية على إبقاء سلطة رام الله على قيد الحياة، عبر تقديم مساعدات مالية لها في مقابل قيامها بدور وظيفي ضدّ منظّمات المقاومة، مع السماح لإسرائيل بالاستمرار بالاستيطان والضمّ والتطهير العرقي في الضفة الغربية والقدس، والمضيّ بحصار غزة مع إتاحة المجال للمساعدة المالية القطرية في مقابل «الحفاظ على الهدوء».كنّا في عالم ما قبل الـ 7 من تشرين الأول 2023. وقعت عملية «طوفان الأقصى» البطولية وتبدّدت معها جميع هذه الأوهام. اعتقد قادة المعسكر الغربي – الإسرائيلي أن إطلاق العنان للتوحّش الصهيوني المنفلت من عقاله، والشروع بعمليات إبادة لآلاف المدنيين الفلسطينيين سيكونان كفيلَين بهزيمة منظّمات المقاومة. لكن وقائع الميدان، وخاصة بعد بداية المعركة البرية، كذّبت مثل هذا الاعتقاد. الجيش الصهيوني يواجه حرب استنزاف عالية الكلفة في شوارع شمال القطاع وأزقّته، وتصعيداً متزايداً للمجابهة على الحدود مع المقاومة في لبنان. حاملات الطائرات والزوارق الحربية الأطلسية التي جرى حشدها في المتوسط لمساندة الكيان لم تمنع قوى المقاومة من الاستهداف المتصاعد لقوات الاحتلال الأميركي في العراق وسوريا، ولا قيام القوات المسلحة اليمنية بقصف جنوب الكيان بالصواريخ والمسيّرات، واحتجاز سفينة يملكها الملياردير الإسرائيلي أبراهام «رامي» أونغار. أمّا على الجبهة السياسية، فقد توقّف مسار التطبيع الرسمي بين السعودية وإسرائيل، وتشكّل موقف سياسي عربي – إسلامي رافض للعدوان على غزة تجلّى في البيان الختامي للقمّة العربية والإسلامية في الرياض. أما على الصعيد الشعبي، وفي أنحاء العالم، فإن الاحتجاجات المناهضة للعدوان الغربي – الصهيوني اتّسعت بشكل غير مسبوق.
انطلاقاً من هذه المعطيات، وأمام صعوبة الحسم العسكري على المديَين القصير والمتوسط، فإن الإدارة الأميركية ارتأت أن مخطّط تدمير المقاومة كخيار يَفرض اتّباع استراتيجية على المدى الطويل تقوم على الدمج بين أدوات عسكرية وسياسية واقتصادية. التلويح بالعودة إلى خيار التسوية على قاعدة «حل الدولتين» يهدف إلى تشكيل تحالف سياسي يضمّ السلطة الفلسطينية والدول العربية «المعتدلة»، يوافق على أن يساهم بالضغط على المقاومة لتقبل بتكوين سلطة بديلة في القطاع مرتبطة بالسلطة الفلسطينية، تكون شريكاً فيها من موقع أدنى في أحسن الأحوال، تدخل في مسار تفاوضي مع إسرائيل، في مقابل رفع حالة الحصار عنه. بكلام آخر، المطروح هو توريط هذه الأطراف في مشروع لتصفية المقاومة في غزة، مع وعد يلوح في الأفق، وهو حلّ يقود إلى قيام دولة فلسطينية. أما بالنسبة إلى الأراضي التي ستقام عليها هذه الدولة، ولحدودها ولمواردها وغيرها من القضايا ذات الصلة، فإنها «تفاصيل ستترك للمفاوضات». «رعاية الخداع»، وهو عنوان لكتاب مهمّ للمؤرّخ رشيد الخالدي حول الرعاية الأميركية لمفاوضات التسوية منذ «مؤتمر مدريد» في عام 1991، هي اختصاص أميركي، وإذا تورّطت أطراف فلسطينية وعربية مرّة أخرى في مثل هذه العملية، فإنها ستتحمّل تبعات وأكلاف سياسية وغير سياسية هي جميعها في غنى عنها. الأيام القادمة ستتكفّل بتوضيح الصورة بشكل أفضل. الأكيد أن قوى المقاومة التي نجحت في التصدّي لمخطّطات التصفية منذ «مؤتمر مدريد»، هي اليوم أقوى وأمنع بما لا يقاس، وستفلح في إفشال أيّ مخطّطات شبيهة.
شعار Yankee Go Home، «عد إلى بلادك أيها الأميركي البشع»، حفر عميقاً في وعي أجيال بعينها في ستينيّات وسبعينيّات وحتى بداية ثمانينيّات القرن الماضي، على خلفية الجرائم المروّعة التي ارتكبتها الولايات المتحدة في فييتنام وكمبوديا، وكذلك لدعمها الأنظمة الديكتاتورية العميلة في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا. ساهم هذا الوعي في خلْق أرضية مناسبة لنموّ حركات ثورية قامت بدور مناهض لهيمنتها، وتصدّت لمشاريعها في أكثر من بقعة من العالم، على الرغم من أن واشنطن كانت في أوج قوتها في تلك المرحلة التاريخية. هي اليوم تشهد انحساراً تدريجيّاً، ولكن مستمرّاً لهيمنتها، وصعوداً لدور منافسَيها الاستراتيجيَّين على المستوى الدولي، وعداءً متأجّجاً لها ينتشر عبر العالم كما النار في الهشيم، على خلفية مشاركتها في حرب الإبادة ضد غزة. الفارق الوحيد ربّما هو في مستوى حدّة العداء لسياساتها، إلى درجة أن الملايين من مواطنيها ومن مواطني الغرب، باتوا يتفهّمون، ليس مجرّد مقاومتها في البلدان الخاضعة لهيمنتها، بل كذلك مهاجمة رموز سطوتها على أراضيها، كما حصل في يوم مشمس من أيلول 2001.