ناصر قنديل-البناء
– أظهرت المقالة التي نشرها مستشار الأمن القومي الأميركيّ جايك سوليفان في عدد تشرين الثاني من مجلة فورين أفيرز المشهورة بجديتها ومكانتها في تناول شؤون السياسة الخارجية الأميركية، درجة الانفصال عن الواقع في المنطقة التي تعيشها دوائر السياسة والاستخبارات في واشنطن، ومن خلالها البيت الأبيض والخارجية الأميركية، حيث شكّل المقال فضيحة كاملة، بعدما كان سوليفان قد أودعه لدى إدارة المجلة قبل شهر من الصدور، أي في نهاية شهر أيلول، كما هي تقاليد المجلة. ويتركّز المقال على تظهير العبقرية الدبلوماسية والاستخبارية لإدارة الرئيس بايدن، في توفير بيئة استقرار استراتيجي في الشرق الأوسط، وإخماد بؤر التوتر ومنها ما وصفه بـ بؤرة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وتوسيع نطاق سياسات التطبيع، وصولاً إلى أن انصراف الإدارة إلى أولوياتها نحو الصين وروسيا يتمّ باطمئنان. وفجأة جاء طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول وأطاح نظريات سوليفان واطمئنانه، وحاول استعادة المقال لإعادة كتابة نص جديد، فامتنعت إدارة المجلة، وبعد مفاوضات ونصائح لتفادي الفضيحة التي سوف تنتشر أكثر إذا فعل، تمّ التوافق على حذف بعض الفقرات الفاضحة دون إضافة فقرات جديدة. وأهمية هذه الواقعة هي في تظهير هذه الغربة الكاملة للعقل الأميركي الذي يصنع القرار عن حقائق صراعات المنطقة وديناميكيتها المتفجّرة.
– خلال الأيام الخمسين من حرب غزة التي رعتها واشنطن، وقعت فضيحة ثانية، فعندما اكتشفت واشنطن أن الشرق الأوسط أولوية تتقدّم على أهمية منافستها مع روسيا والصين، لوقوعه في وسط العالم وتقاطع خطوط التجارة وارتباطه بأمن الطاقة، وتأثيره على أمن أوروبا وأفريقيا أكثر من حرب أوكرانيا، وأهميته في المنافسة مع روسيا والصين، لوقوعه في قلب هذه المنافسة، فقررت اعتبار حرب «إسرائيل» في غزة حرباً أميركية، وجاءت بحاملات الطائرات، ووضعت مصير قدرة الردع الأميركية في الميزان عندما وجهت التحذيرات الواضحة بالعواقب الوخيمة لكل من يفكر بالدخول على خط حرب «إسرائيل» في غزة، خصوصاً مَن وصفتهم بـ أذرع إيران. ولم تلبث واشنطن أن تعاملت مع صفعات تصاعدية أصابت ميزان الردع المفترض إصابة بالغة، فلم تستطع ترجمة العواقب الوخيمة عندما فتح حزب الله جبهة جنوب لبنان وأخذ يصعّد تهديده للعمق الإسرائيلي منها، ولا عندما قال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، نحن لا نقيم حساباً لحاملات طائراتكم هذه ولا تخيفنا تهديداتكم، أما حاملاتكم فقد أعددنا لها عدّتها، ثم جاءت عمليات استهداف القواعد الأميركيّة في العراق وسورية، عشرات المرات. وظهر هزال الرد الأميركي وعجزه عن تحقيق الردع المنشود، وصار أقرب لمحاولة وضع قواعد اشتباك مع قوى المقاومة بدلاً من ردعها، وتوّج المسار بما شهده البحر الأحمر من تحدٍّ مباشر وصارخ لقدرة الردع الأميركية التي ارتبطت تاريخياً وفق النصوص المنشورة للاستراتيجيات العسكرية الأميركية، بأمن الملاحة وأمن تدفق الطاقة والإمساك بالممرات المائية. وقال أنصار الله عملياً ولمرات متكرّرة إنهم لا يأبهون لقدرة الردع الأميركية في هذا الممر والحوض المائي الذي يحتضن ثلث التجارة العاملية ونصف التجارة النفطية، ولم تستطع واشنطن أن تفعل شيئاً، بما يتناسب مع نظريّة الردع والعواقب الوخيمة.
– ترافق التآكل في قدرة الدرع الأميركية مع تآكل قدرة الردع الإسرائيلية، التي ظهرت بعد الفشل العسكري في حرب غزة، والعجز عن إدارة المواجهة على جبهة لبنان، أنها عاجزة عن إقناع مستوطنيها في الشمال والجنوب بالعودة الى مستوطناتهم، بعدما تحوّل الحديث عن قدرة الردع أمامهم الى مصدر للسخرية. ونشأت معادلة تقول إن فائض القوة الإسرائيلي عند استعماله ولو بصورة مفرطة لا يحقق أي نتيجة سياسيّة، تتّصل بمفهوم الردع، فقتل وإصابة قرابة مئة ألف مواطن فلسطيني في غزة وتدمير نصف المساكن وتشريد مليون ونصف المليون مواطن من منازلهم لم ينتج أي مردود سياسي بفك الناس من حول المقاومة وضرب تعاطفهم معها، وفشل في إضعاف فعالية المقاومة في الميدان أو تخفيض سقف موقفها السياسي.
– بدأت الهدنة ومعها صفقات تبادل الأسرى بشروط المقاومة، وقد كانت عناوين مثل هدنة تشمل كل قطاع غزة وتتدفق خلالها المساعدات إليه بما فيها الوقود وتبادل الأسرى، تثير سخرية بنيامين نتنياهو وجو بايدن في الأيام الأولى للحرب. والواضح أن واشنطن تشعر بالخطر، خطر العودة للحرب واحتمال تحوّلها الى حرب إقليمية، وخطر التسليم بانتصار المقاومة. وهي تنهمك في البحث عن أفكار تتيح الاحتواء ويأتي المسؤولون الأميركيون الى المنطقة بهذا الهدف، وزيارة وليم بيرنز تأتي في هذا السياق، كما تؤكد كل الصحف الأميركية، فهل تنجح واشنطن؟
– لا يكفي لاحتواء المشهد المتفجّر رفع شعارات فضفاضة غير قابلة للتطبيق مثل حل الدولتين، حيث لا أحد يملك جواباً عن سؤال، من هو الإسرائيلي الذي سوف يقبل بتفكيك المستوطنات والتخلي عن القدس عاصمة موحّدة لكيان الاحتلال بقبول القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين؟ ومن هو الفلسطيني الذي سوف يقبل بدولة تتعايش مع الاستيطان وتتخلّى عن القدس الشرقية، ولا تستطيع واشنطن وحدها النجاح في بناء جسر سياسي يمكن عبوره من الانفجار الى الانفراج، حيث لا بدّ من وحدة قوى المجتمع الدولي لمقاربة القضايا العميقة الجذور للصراع الذي تشكل القضية الفلسطينية جوهره، وهذا يستدعي تفاهماً أميركياً مع روسيا والصين، يبدأ من الانخراط بمقاربة أميركية جديدة حول الأولويات ونظريات التنافس والصراع والمواقف من النزاع حول أوكرانيا وتايوان، ولا بد من بيئة إقليميّة متعاون للنجاح في الاحتواء. وهذا يستدعي انفتاحاً على إيران وتعزيزاً لمكانة التفاهم السعودي الإيراني لتحويله إلى مرجعية إقليمية جديدة لاحتواء المخاطر، ويستدعي فكفكة الألغام التي يسببها الوجود الأميركي في سورية والعراق، ولكنه يستدعي أيضاً الإقرار بأن حزب الله اللاعب الإقليمي المحوري، لا يمكن ضبطه بقفص لبناني ضيق، وتوهّم محاصرته عبر قوى بالكاد يتخطى نفوذها أحياء وقرى لبنانية، ولا يمكن الخوض في لعبة مكاسرة معه كالتي توهمت واشنطن خوضها حول رئاسة الجمهورية، وبدأت توزع الأدوار والجوائز على دول إقليمية تبحث عن دور وقوى محليّة وشخصيات قامت باستنهاضها تحت شعار تحجيم حزب الله.