التسوية اللبنانية بعد الصفقة الإقليمية

التسوية اللبنانية بعد الصفقة الإقليمية
جوني منيّر-الجمهورية

الجولة الجديدة، أو الاولى بعد اندلاع حرب غزة، التي يقوم بها الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان الى لبنان، لن تُحدث كما سابقاتها الخرق المطلوب حيال الأزمة الرئاسية المتمادية، ولو أنّها ستؤدي الى رفع مستوى الجدل والنقاش الداخلي نتيجة التحذيرات الصارمة والمصحوبة ببعض الإيحاءات الجديدة حول الملف الرئاسي.

وقد يكون الهدف الفعلي للزيارة إعادة التذكير بالدور الفرنسي الأساسي على الساحة اللبنانية بعد حرب غزة المدمّرة وقبل الشروع في فتح ملف الجنوب والقرار 1701، خصوصاً أنّ قطر كانت استعادت حركتها من خلال جولة موفدها. وهذا لا يعني بالضرورة «تسابقاً» بين باريس والدوحة في لبنان، بل حفظ أدوار الجميع.

وقبل ولوج التعقيدات اللبنانية، لا بدّ من قراءة آخر ما استجد على مشهد الحرب في غزة، خصوصاً وسط التحضيرات الجارية لترتيب تسوية كبيرة تطاول الخريطة السياسية للشرق الاوسط لعقود عدة مستقبلاً، وهو ما سيصيب لبنان بطبيعة الحال.

فإسرائيل التي دخلت الحرب بجنون وحشي قلّ نظيره تاريخياً، تتنازعها النزاعات الداخلية العنيفة والمؤهلة لأن تتفاقم كثيراً، والتي تؤشر إلى تبدلات واسعة ستضرب جذور التركيبة السياسية القائمة. لأجل ذلك تحديداً تعلو أصوات المتطرّفين داخل الحكومة إضافة الى رغبة نتنياهو بضرورة استمرار الحرب.

فاستمرار الحرب بالنسبة إلى هؤلاء سيعني تأجيل فتح إجراءات المساءلة الحكومية حول تحمّل مسؤولية حصول «طوفان الأقصى». وبالنسبة الى نتنياهو سيعني أيضاً تأجيل جلسات محاكمته والمفتوحة منذ ثلاثة أعوام ونصف عام حول تهم الفساد.

وعلى الرغم من أنّ الحرب لم تنتهِ بعد رسمياً، إلّا أنّ الاتهامات لنتنياهو بدأت اعلامياً حول مسؤوليته الكبرى عن الكارثة التي حصلت، كونه بنى سياسته على أساس السماح بتعزيز وضع حركة «حماس» في مقابل إضعاف السلطة الفلسطينية لرهانه على تعميق الانقسام الفلسطيني، وبأنّ هذا التوازن سيؤدي الى إحباط قيام مشروع الدولتين، والذي كانت واشنطن تضغط في اتجاهه دائماً. ولهذا السبب كان نتنياهو يسمح بتمرير أموال قطرية الى قيادة «حماس» كانت تقدّر بنحو 30 مليون دولار شهرياً.

وأورد الصحافي الاسرائيلي المعروف بن كاسبيت، والذي يعمل في صحيفة «معاريف»، أنّ جهاز المخابرات العامة (الشاباك) كان قد قدّم لنتنياهو في الفترة ما بين 2011 و 2023 ستة مخططات لاغتيال يحيى السنوار وغيره من القادة الأمنيين والعسكريين الكبار في حركة «حماس». لكن نتنياهو رفض كل هذه المخططات وفق بن كاسبيت. وبعد أن سارع نتنياهو الى نفي ذلك عمد وزير الدفاع الأسبق أفيغدور ليبرمان إلى تأكيد المعلومات.

وفي إشارة اضافية الى الزلزال السياسي الذي ينتظر اسرائيل، أعلن رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) اللواء أهرون حليوة امام قريبين منه، نيته تقديم استقالته في أقرب وقت ممكن وحين تنتهي الحرب.

لأجل ذلك ثمة مخاوف من أن تعمد الحكومة الإسرائيلية الى الاندفاع أكثر في اتجاه الحرب كخطوة يائسة للهروب من «المقصلة» السياسية التي تنتظرها. ولكن إلى متى؟

 

فداخل الجيش الاسرائيلي رفض كثير من الضباط للاستمرار في الحرب. وخلفية الرفض سياسية. فبعض هؤلاء ينتمون الى حزب العمال والى أحزاب معارضة، وهنا مكمن الخطورة.

أضف الى ذلك، ارتفاع منسوب النقاشات حول مخاطر استمرار الحرب وبالتالي إبقاء الحجز على الاحتياط ما قد يؤدي الى حدوث انهيار مفاجئ للاقتصاد الاسرائيلي. فالاستدعاء الحالي شمل 360 ألفاً من قوات الاحتياط التي يصل مجمل عديدها الى 465 ألفاً هم في الأساس أيادٍ عاملة في كثير من الصناعات المهمّة والقطاعات الأساسية المنتجة مثل المؤسسات التجارية والصناعية والموانئ. ذلك أن تشغيل مصانع الأسلحة يحتاج الى مهندسين وعمّال يُعتبرون من النخبة في المجال الصناعي الانتاجي.

أضف الى ذلك، أنّ الخزينة الاسرائيلية كانت اقترضت من خلال المصارف الأميركية 6 مليارات من الدولارات بفائدة مرتفعة، لتمويل حربها على غزة. وهي ملزمة بتسديد ديونها للحدّ من الفوائد المتراكمة.

في اختصار، لم يعد الاقتصاد الاسرائيلي يملك ترف الوقت، وهو ما يشكّل ضغطاً قوياً على نتنياهو وحكومته لعدم توسيع الحرب وعدم إطالتها. وهذا ما قد يدفع بنتنياهو الى حلّ وسط، يقضي بخفض مستوى الحرب من دون إنهائها، وبالتالي السماح بتسريح عشرات الآلاف من الاحتياط.

وفي كل الحالات، لا بدّ من أن يكون نتنياهو يتحسس رقبته. فهو بات يقف في قلب المأزق، والأهم أنّه لا يوجد من يرغب بإنقاذه، بدءاً من ادارة بايدن.

ووفق ما تقدّم، يظهر أنّ هامش حرّية حركة نتنياهو قد ضاق كثيراً، وهو ما تراهن عليه واشنطن التي تندفع لترتيب مسرح الشرق الاوسط لإنتاج تسويات عريضة ومعادلة اقليمية جديدة، لا بدّ ان تكون نار غزة قد أنضجت ظروفها. ذلك أنّ الاستراتيجية التي اعتمدتها ايران لمحور المقاومة طوال العقود الماضية وأثمرت تمدّداً ناجحاً في أربع عواصم عربية، أصابته عملية «طوفان الأقصى» في الصميم. فما كان قائماً في السابق لم يعد صالحاً للمستقبل. وهو ما يعني لطهران أيضاً أنّ الوقت حان للتفاهم مع واشنطن حول توزّع النفوذ السياسي والاقتصادي في المنطقة. خصوصاً أنّ عامل الوقت لم يعد يلعب لمصلحة مراكمة النقاط من خلال ما عُرف باستراتيجية الصبر.

فالنزاع الأميركي الداخلي كبير، وهنالك انتخابات رئاسية أميركية بعد أقل من سنة غير مضمونة، وقد تحمل مفاجآت صعبة، ما يوجب إنجاز صفقة سياسية قبل هذا الموعد.

كما أنّ هنالك من يسعى للاصطياد في المياه العكرة بين حركة «حماس» وطهران. فالإشارات المبطنة توالت حول «ترك» «حماس» بمفردها في الميدان ومن دون تطبيق مبدأ «وحدة الساحات». وغالب الظن أنّ هنالك من يسعى للعزف على هذا الوتر، وبالتالي تكريس مرجعية أقليمية جديدة للجناح العسكري لحركة «حماس». واللافت أنّ هنالك من يعتقد بإمكانية ضمّ السنوار إلى تركيبة جديدة لسلطة فلسطينية جديدة ووفق مفهوم سياسي جديد. ففي العلم السياسي مبدأ يقول إنّ «من يقوم بالحرب هو وحده القادر على نسج التسويات الصعبة». خصوصاً أنّ تبدلات هائلة ستحصل على مستوى القيادة الاسرائيلية.

ففي اسرائيل بدأت ترتفع اصوات كثيرة من بينها رئيس الحكومة السابق إيهود باراك، تقول إنّ الذين خاضوا حروباً وعرفوا سفك الدم باتوا يؤمنون بأنّ هنالك حدوداً للقوة. وهو ما يعني بوضوح اقتراب الشارع الاسرائيلي من اقتناع بوجوب الذهاب الى تسوية مع الفلسطينيين تضمن السلام بين الجانبين. وقد يكون باراك يشير ضمناً الى أنّ التسوية تحصل مع الأقوياء من الجانب الآخر.

وفي الاجتماع الرباعي الذي حصل في قطر، والذي تركّز حول طريقة الاستمرار لإقفال ملف الأسرى، كان معبّراً جداً أنّ «حماس» أكّدت قدرتها على إعادة جميع المحتجزين على الرغم من انّهم موزعون على فصائل مختلفة.

واللافت أيضاً في اجتماع قطر أنّه ضمّ رؤساء أجهزة المخابرات الاميركية والمصرية والاسرائيلية إضافة الى رئيس الوزراء القطري. واستُبِق هذا الاجتماع بجولة ثالثة لوزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن الى المنطقة منذ اندلاع الحرب.

صحيح أنّ هدف الاجتماع الرباعي إنهاء تبادل المحتجزين والعمل على وقف الحرب وفق مبدأ «المزيد مقابل المزيد»، الّا أنّ ثمة نكهة اضافية ضمنية يشعر بها الجميع، ويلاقيها من بعيد التفاوض السرّي بين واشنطن وطهران عبر سلطنة عمان.

وهذا التفاوض تصاحبه رسائل إيرانية ميدانية كمثل الهجمات الحوثية البحرية في «باب المندب» أو الممر المائي الأساسي لنفط الخليج، وأيضاً الذي يشكّل نحو 10% من مجمل التجارة العالمية.

وفي رسائل ايران المعبّرة من «باب المندب» أنّ عملية الاستيلاء على سفينة «غلاكسي» مثلاً، حصلت على بعد نحو 150 كلم قبالة ساحل الحُدَيدَة وعلى مقربة من ساحل أريتريا.

كذلك في الرسائل الإيرانية إطلاق الحرس الثوري صواريخ ضدّ قطع بحرية أميركية، رداً على تدخّل البحرية الاميركية وإحباطها محاولة ايرانية لاختطاف سفينة شحن.

الواضح أنّ ما حصل كان بمثابة تخاطب بين واشنطن التي ترفض حتى الآن على الأقل دوراً لإيران في هذا الممر المائي وقبل حصول صفقة، في مقابل إصرار طهران على انّها حصلت على نفوذها في «باب الندب» من دون الحاجة الى إقرار من أحد، وانّها مستعدة للقتال من أجل ذلك.

وهذا التخاطب يؤكّد أنّ باب ترتيب الصفقات بات مشّرعاً، ولكن من المبكر التكهن بإنجازه قريباً. ولأنّ المنطقة كلها ستخضع لـ«يالطا» جديدة، تعثرت زيارة الرئيس الايراني الى أنقرة. وهذا منطقي مع وجود تضارب في المصالح.

وسط هذه الصورة الملبّدة يجب مقاربة الملف اللبناني. ولأجل ذلك يعتقد كثيرون أنّ باب الفرج الرئاسي لم يحن بعد. فمع الشروع أكثر في المفاوضات بين واشنطن وطهران وتحقيق التقدّم المطلوب، سيأتي دور جنوب لبنان وإعادة ترتيبه على أساس القرار1701. وهو ما يعني ضمناً ترتيب الوضع العسكري لـ«حزب الله»، خصوصاً إذا ما تحقّقت التسوية الفلسطينية ـ الاسرائيلية بمشاركة «حماس».

البعض يقول إنّ «حزب الله»، والذي يدرك أنّ أوان التسوية في لبنان لم يحن بعد، لا يزال متمسكاً بترجمة نفوذه من خلال الإقرار بإمساكه بمساحة نفوذ واسعة جداً داخل السلطة اللبنانية. وأن يحصل ذلك بمعزل عن الصفقة العريضة في المنطقة، أي عبر صفقة جانبية منفصلة. لكن الأثمان الاقليمية هائلة وضخمة، والصحن اللبناني اصبح فقيراً وغير مغرٍ خصوصاً بعد حرب غزة.

لكن الواضح من كل ما سبق أن الحركتين الفرنسية والقطرية هما لملء الوقت ولتحضير المسرح في انتظار تحقيق تفاهمات اقليمية تسمح بفتح ملفات جنوب لبنان ومعها الملف الرئاسي قبل الشروع في مرحلة الاستقرار الذي تاق اللبنانيون لها.

Exit mobile version