دأبنا على المقارنة بين “الاسرائيلي” الذي يفكر لمائة عام، والعربي الذي بالكاد يفكر لمائة يوم. “الاسرائيليون” دخلوا الى القرن بصناعة الأدمغة (نحن دخلنا بصناعة أنصاف البشر). فكروا بانشاء “التخنيون”  (معهد “اسرائيل” للتكنولوجا) عام 1912، وبدأ العمل فيه عام 1924، لتغدو “اسرائيل” من أكثر دول العالم تقدماً في القطاع الالكتروني.

وعندما أطلق الرئيس رونالد ريغان برنامج “حرب النجوم”  (اقامة منصات فضائية يمكنها تدمير أي صاروخ عابر للقارات خلال 7 أو 8 ثوان بأشعة اللايزر أو بالجزيئيات الالكترونية)، حط المدير التنفيذي للبرنامج الجنرال جيمس أبرامسون في “تل أبيب”، لتوقيع اتفاقية تتعلق بتصنيع “اسرائيل” أجهزة خاصة بذلك.

ماذا عن البلدان العربية التي حصلت على استقلالها قبل قيام الدولة العبرية ؟ حتى الآن، نستورد حتى عيدان الثقاب، ما دام فقهاؤنا الأجلاء ينقلوننا الى الكواكب الأخرى بالفتاوى والأدعية. اذ يقال أن اليهود عانوا من التيه في الأمكنة، العرب عانوا  وما زالوا يعانون من التيه في… الأزمنة !

ذلك الايقاع الهيستيري للغزو أظهر أن “الاسرائيليين” الذين مضوا بعيداً في الابداع التكنولوجي، مضوا بعيداً، وبفعل التأويل البربري للنصوص، في العمى السياسي. من أكثر من عقدين، قال ناحوم غولدمان، وهو أحد آباء الدولة، ان العقل الاسبارطي الذي يحكم “اسرائيل” لا بد أن يحوّل الفلسطينيين الى “أعاصير بشرية”. ولقد تحولوا…

هنا، وبيد المقاتلين الفلسطينيين، بالوجوه البهية (تلك الوجوه المضرجة بالتراب)، لا مكان لمن احترفوا البهلوانيات الديبلوماسية، وحيث الأولوية لغصن الزيتون لا للبندقية، ولمن يقيمون في الأجنحة أو في الفيلات الفاخرة. هؤلاء الذين شاركوا في دفن القضية للبقاء على الكراسي، أو للأقامة على الشاشات. الزبائنية القذرة في ذروة تجلياتها…

فلسطين قامت، حقأً قامت. في كل العالم ، حتى داخل الاستبلشمانت التي طالما شكلت الغطاء الايديولوجي والغطاء الاستراتيجي “لاسرائيل”، ثمة أصوات بدأت ترتفع اعتراضاً على سياسات الابادة، وان كنا بعيدين جداً عن ألتأثير في الـ”جوراسيك بارك” (حديقة الديناصورات) في الكونغرس. وقد لاحظنا كيف أن السيناتور البارز ليندسي غراهام ـ وهو جمهوري ـ يبرر، بل ويدعو القادة “الاسرائيليين” الى قتل المدنيين بحجة أن حماس موجودة في كل مكان من غزة، ودون أن تهزه جثث آلاف الأطفال. لعلكم تذكرون كلام بابلو نيرودا عن… جنون الآلهة!

باستطاعتهم أن يقتلوا الملايين في حضرة هذا الموت العربي العام، وما دام يهوه قد تجسد في الاله الأميركي. ولكن ألا يثير ذلك هلع العديد من المفكرين والمثقفين الغربيين. توماس فريدمان استعاد قول كونفوشيوس (النبي الصيني) “حين تشرع في رحلة الانتقام، أحفر قبرين أحدهما لعدوك والآخر لك”.

العرب آخر من يستيقظ بين كل مجتمعات الدنيا ـ هذا اذا استيقظوا ـ لو كان هناك عرب لاهتزت الدنيا في هذه الأيام، ولما تجرأ أولئك الزبانية على التهديد بتحويل غزة (وبيروت) الى مقبرة، كما لو أنهم نسوا ماذا فعلت بهم بيروت، وما فعل بهم لبنان…

مشكلتنا الآن أن ما من ديناميكية عربية تستطيع توظيف “الحالة”  لايجاد حل للتراجيديا الفلسطينية، التي تعدّت في بعدها الانساني التراجيديا الاغريقية. من لا يدري أن هناك في واشنطن، وفي منطقتنا العربية، مَن يراهن على عودة القضية الى الثلاجة، واستئناف دومينو التطبيع، مع توقع بعض المحللين الغربيين أن يندفع الصراع في اتجاه أيام أكثر بربرية وأكثر جنوناً ، بالاصرار على ترحيل قيادات حماس ومَن تبقى من مقاتليها، بالرغم من الأداء الأسطوري لرجال غزة الى أي فصيل انتموا.

ذات يوم قال أوليفيه روا لبنيامين نتنياهو “لا تحاولوا أن تقلّدوا أميركا والا أصابكم ما أصاب الضفدعة التي حاولت أن تصبح بحجم الثور”. حتى أعظم أمبراطورية في التاريخ هوَت أمام الفيتكونغ، بالأقدام العارية وأمام “طالبان” بالبطون الخاوية.

اذا تناهى اليكم كلام ذلك المراسل الأنكليزي “الفلسطينيون يموتون لكنهم يقومون”. هذه المرة الخنادق ـ وحتى القبور ـ هي التي تتكلم. الآخرون في قصورهم وفنادقهم الفاخرة ركام..