ليس هناك من موعد محدد بعد لعودة الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتاين إلى لبنان بعد زيارته الأخيرة، لكن الجميع ينتظرون عودته في أي وقت مركّزاً على موضوع الحدود البرية الجنوبية لجهة تثبيتها وإنهاء الانتهاك الإسرائيلي لها في 13 نقطة والانسحاب من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وخراج بلدة الماري، فهذه الحدود مرسّمة منذ عام 1923 أيام الانتدابَين الفرنسي في لبنان والبريطاني في فلسطين المحتلة ولا تحتاج الى اعادة ترسيم أصلاً وفصلاً.
على حد ما قال نائب رئيس مجلس النواب الياس بوصعب، الذي كان له لقاء طويل مع هوكشتاين في دبي أخيراً، أنهما توافقا في الرأي على أن البحث في أي حلول للحدود الجنوبية اللبنانية والقرار الدولي 1701 لا يمكن أن يحصل إلا بعد وقف إطلاق النار. وطبعاً انّ وقف النار هذا يجب أن يحصل في غزة أولاً قبل أن ينسحب على حدود لبنان الجنوبية التي تحركت المقاومة فيها اسناداً للمقاومة الفلسطينية في غزة وتخفيفاً للضغط العسكري الإسرائيلي عنها. لكن يبدو انه لن يتم التوصّل اليه في سهولة نتيجة إصرار إسرائيل على مواصلة الحرب لأنها لم تحقق بعد الأهداف التي حددتها وهي «القضاء» على حركة «حماس» واستعادة الاسرى والسيطرة على قطاع غزة، وهو ما لم تحقق اي شيء منه بعد في الميدان حتى الآن، فيما كل المؤشرات تدلّ إلى أنها بدأت تغرق في رمال غزة المتحركة حيث تتكبّد يومياً خسائر فادحة ولم تتمكن من السيطرة حتى على بعض المناطق او الجيوب التي دخلتها في شمال قطاع غزة ووسطه وجنوبه. ولعل ما يدل إلى فشلها هو استمرارها في القصف التدميري للمجمعات السكنية وارتكاب مزيد من المجازر في حق الاطفال والنساء وكبار السن حيث بدأ عدد الشهداء منهم يقترب من العشرين ألفاً، عدا الالوف من المفقودين تحت الركام، واكثر من 60 الف جريح. وكل ذلك تركتبه اسرائيل غير آبهة بالقانون الدولي الذي يحظّر التعرّض للمدنيين في الحروب، ولم تستجب لكل الدعوات العربية والدولية الى وقف إطلاق النار.
ولذلك يقول مطلعون قريبون من بعض المراجع المسؤولة العاملة على تجنيب لبنان تَوسّع رقعة الحرب انّ مستقبل الوضع على حدود لبنان الجنوبية بات مرهونا بما سيؤول إليه الوضع في غزة، إذ لا يمكن البحث في أي حل تحت وطأة المواجهات الجارية بين رجال المقاومة وقوة الاحتلال الإسرائيلي على الجبهة الجنوبية، وهي مواجهات ثبت انها كانت ولا تزال مضبوطة على ساعة حرب غزة ولا تتأثر بالتهديدات الإسرائيلية المباشرة أو تلك التي يحملها بعض الموفدين الدوليين العلنيين أو السريين الذين يترددون إلى لبنان هذه الأيام، وكان آخرهم الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان ومدير المخابرات الفرنسية برنار ايمييه حيث نقلا موقفاً إسرائيلياً يدعو إلى انسحاب المقاومة من المنطقة الحدودية إلى شمال نهر الليطاني بحجّة انّ القرار الدولي 1701 لعام 2006 يقضي بهذا الانسحاب، وذلك لكي تضمن تل ابيب عودة نحو مئة الف مستوطن إلى المستوطنات الشمالية التي نزحوا منها تباعاً منذ الثامن من تشرين الأول الماضي إلى داخل فلسطين المحتلة، إذ يرفض هؤلاء العودة إليها ما لم تنسحب «قوة الرضوان» في «حزب الله» من المنطقة الحدودية، وهو ما تتخذه إسرائيل ذريعة لإثارة موضوع «تنفيذ» القرار 1701 الذي كانت ولا تزال تَنتهكه به منذ صدوره.
والواقع، يقول المطلعون، ان الوضع في الجنوب كان ويبقى مفتوحا على كل الاحتمالات تبعاً لتطور الأوضاع العسكرية في قطاع غزة، لكن أيّ بحث في تنفيذ القرار 1701 لن يصل الى نتيجة. أوّلاً لأن لبنان يخشى من نية اسرائيلية مبيّتة ضده تدل اليها تهديدات المسؤولين الاسرائيليين اليومية وآخرها تهديد نتنياهو وتَوعّده بأن يكون مصير بيروت ولبنان كمصير مدينتي غزة وخان يونس، اذ يمكن ان ينفّذ تهديده هذا في حال تَمكّنه من هزيمة «حماس»، خصوصاً انه يستفيد في حربه الحالية من الدعم المطلق الاميركي والغربي له والذي يحول دون التوصّل الى وقف اطلاق النار في قطاع غزة حتى الآن. وثانياً، إذا ركّز على انسحاب أحادي الجانب للمقاومة من المنطقة الحدودية لا يتزامن مع انسحاب الجيش الإسرائيلي في الجهة المقابلة لتكون «المنطقة العازلة» على ضفتي الحدود، فإذا كان المطلوب أن تكون هذه المنطقة بعمق خمسة كيلومترات او اكثر على الأراضي اللبنانية فينبغي أن يقابلها العمق نفسه في الأراضي الفلسطينة المحتلة، ما يعني أنه سيكون على إسرائيل أن تُخلي هذا العمق عسكرياً، والذي تقع ضمنه المرتفعات التي نصبت عليها أعمدة الإرسال والاستطلاع والتنصّت والتجسّس والتحَكّم بعمل الطائرات المسيرة وحتى الحربية على الأراضي اللبنانية، والتي استهدفتها المقاومة ودمّرتها او عطّلتها منذ فجر الثامن من تشرين الأول الماضي. فإذا رفضت التماثل في الانسحاب فإنّ ذلك الكلام سيحول دون التوصّل إلى أي اتفاق حول تنفيذ القرار 1701. فمثلما تُبدي إسرائيل حرصاً على أمن مستوطناتها الشمالية فإنّ من حق لبنان ان يكون حريصاً في المقابل على أمن المدن والقرى والبلدات الحدودية المحاذية لتلك المستوطنات او البعيدة نسبياً عنها. إلا أنه قد يكون من السابق لأوانه الخوض في هذا المضمار قبل معرفة ما ستؤول إليه حرب غزة التي ربما تتوسّع، خصوصاً في حال التقاط «محور المقاومة» إشارة من قيادة «حماس» الميدانية في غزة تدلّ الى خَطر وجودي حقيقي يتهددها في مواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلي، إذ عندها سيتيَقّن «المحور» وحلفاؤه من أنّ الحرب على غزة تتخطى فعلياً الرغبة الإسرائيلية بالانتقام واستعادة «قوة الرد» إلى تصفية القضية الفلسطينية وإنهاء «الدولة الفلسطينية» على اراضي غزة والضفة الغربية المنصوص عنها في مشروع حل الدولتين» الذي تركّز عليه المواقف الدولية منذ بداية الحرب. وإذا توسّعت رقعة الحرب في هذه الحال فستكون كل الاحتمالات واردة وقد يتغيّر معها وجه المنطقة والتوازنات فيها، على حد قول المطلعين أنفسهم.
أما على جبهة الاستحقاق الرئاسي فإنّ المواقف الداخلية لا تزال على حالها وقد جاءت المواجهات على الحدود الجنوبية وحرب غزة لِتدفعه إلى مزيد من الجمود، وربما من التعقيد، على رغم من حيوية إنجازه لكي تكون للبنان سلطة جديدة برئاسة رئيس جديد تستطيع التعامل مع التطورات الداخلية وفي الإقليم. والملاحظ ان زيارة الموفد الفرنسي الأخيرة بدل أن تساهم في إحداث اختراق في هذا الاتجاه فعلت العكس وأجّجَت الخلاف حول هذا الاستحقاق، وقدّمت موضوع تنفيذ القرار 1701 عليه، وركّزت على وجوب تمديد ولاية قائد الجيش العماد جوزف عون لتلافي فراغ في القيادة العسكرية يمكن أن تقع فيه البلاد في 10 كانون الثاني المقبل إن لم يعيّن قائد جديد للجيش أو تُمدّد ولاية القائد الحالي، نتيجة الخلاف المُستحكم حول هذا الموضوع بين مختلف الافرقاء السياسيين. ولكن يتوقّع بعض الاوساط المعنية أن يحسم هذا الملف في صيغة ما خلال الجلسة التشريعية النيابية المتوقعة الأسبوع المقبل، وذلك في ضوء اقتراحات القوانين المطروحة في أنه على جدول أعمال الجلسة، والتي لا يزال موضوع تأمين نصابها القانوني، وحتى السياسي، غير محسوم إذا لم تحضرها كتلتا «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» او أيّ منهما، خصوصاً عند البحث في اقتراحات القوانين العسكرية.