أميركا تفعّل ضغطها على إسرائيل: للانتقال فوراً إلى «المرحلة الثالثة»

مع مرور أكثر من شهرَين على بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ونحو شهر ونصف الشهر على انطلاق العملية البرية، لم يحقّق الجيش الإسرائيلي أيّاً من أهدافه المعلَنة، في حين أنّ التباين بينه وبين راعيته الأميركية، بدأ يطفو على السطح. إذ تريد واشنطن الانتقال فوراً إلى المرحلة الثالثة من العملية البرية، أي إلى مستويات قتالية أقلّ حدّة ممّا هي عليه الآن، عبر اللجوء إلى الحرب من بعد، أي غارات وتوغّلات محدودة، بينما تل أبيب لا تزال تعاند الواقع، وتسعى إلى مواصلة القتال بوتيرته الحالية العالية، أملاً في تحقيق شيء ما من أهدافٍ ثَبُت أنّ بلوغها متعذّر.وفي سياق هذا التباين تحديداً، تأتي زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي، جايك سوليفان، إلى تل أبيب، وهي الأولى لمسؤول رفيع المستوى في إدارة جو بايدن، بعد «الانتقاد» الاستثنائي الذي وجّهه الرئيس الأميركي، علناً، إلى الحكومة الإسرائيلية، ورئيسها بنيامين نتنياهو، ودعوته الصريحة إلى الانتقال إلى شكل آخر من أشكال الحرب. ورسالة سوليفان إلى المسؤولين الإسرائيليين، واضحة جدّاً: لم يَعُد في الإمكان مواصلة القتال بوتيرته الحالية، وآن الأوان لضبط شكله وأسلوبه ووتيرته ونطاقه الجغرافي، بما يؤمّن تحقيق مخرج سياسي، يتناسب مع مصلحة تل أبيب، كما تراها واشنطن. إذ وفقاً لرؤية الإدارة الأميركية، لم تَعُد الحرب كما هي عليه الآن، متوافقةً مع مصالح إسرائيل، أو الولايات المتحدة، ما يُلزم الأولى الإسراع في إيقافها، والانتقال إلى أسلوب قتالي آخر، عنوانه تراجُع الجيش الإسرائيلي ما أمكن عن مناطق الاحتكاك المباشر مع المقاومين الفلسطينيين، وتحديداً المناطق الحضرية، على أن تُدار الحرب من بعد، عبر غارات جوية أو توغّلات برية محدودة، تشبه إلى حدّ كبير التموضع الإسرائيلي في الضفّة الغربية، أو الحزام الأمني من القرن الماضي، في جنوب لبنان.

لكن إسرائيل ترفض مثل هذا الانتقال، حالياً، وإنْ كانت هذه هي وجهتها لاحقاً، وذلك يعود إلى جملة أسباب موضوعية وأيديولوجية، وتوجّهات مبنية على صدمة السابع من أكتوبر، فضلاً عن المصلحة الشخصية لرئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الذي يفضّل حرباً مستعرة، حتى لا يضطرّ إلى مواجهة مصيره السياسي القاتم، فيما يسعى إلى إطالة أمد القتال بوتيرته الحالية، علّه يستحصل إنجازاتٍ تمكّنه من مواجهة مرحلة المساءلة اللاحقة. وفي الوقت نفسه، تتقاطع تلك المصلحة مع مصالح عدد كبير من وزراء ائتلافه الحكومي من المتطرّفين الفاشيين، وأيضاً، وهو الأهم، عدد كبير من مسؤولي المؤسسة الأمنية والعسكرية، والذين يتطلّعون إلى تحقيق إنجازات ضمن معادلات وخطط مبنية على صدمة «طوفان الأقصى»، رغم أنّ هؤلاء باتوا مدركين أن جلّ ما يمكن تحقيقه، هو مزيد من الشيء نفسه، رغم تزايد الخسائر اليومية.

 

بالنتيجة، يمكن القول إن التباين بين الولايات المتحدة وإسرائيل، لا يتعلّق بوقف دائم لإطلاق النار، بل بانتقال سريع إلى المرحلة الثالثة من العملية البرية، وفقاً لما تريده واشنطن، أو منح الجيش وقتاً إضافياً ليستمرّ على هذه الوتيرة إلى أن يتحقّق شيء ما، كإطلاق الأسرى الإسرائيليين، أو عدد معتدّ به منهم، أو قتل قادة «حماس» الثلاثة، أو واحد منهم على الأقلّ، وهم يحيى السنوار ومحمد الضيف ومروان عيسى، بحسب ما تتطلّع إليه تل أبيب. إذ تريد هذه الأخيرة إنجازاً يحقّق لها قدْراً معتدّاً به من توقّعات جمهورها العالية جداً، وهو ما يبدو متعذّراً، ولكنّ إنهاء المرحلة الحالية من العملية البرية من دون تحقيق أيّ من تلك التوقعات، أسوأ بكثير على صانع القرار الإسرائيلي من استمرار الحرب، وإنْ على طريقة «مزيد من الشيء نفسه».
وإذا كانت الأهداف المشتركة بين الجانبين، واحدة، فإنّ ثمّة خلافاً في الرؤية أيضاً حول المخرج السياسي للحرب لاحقاً، سواء بوتيرتها العالية أو المنخفضة، أي بعد أسابيع طويلة، وربّما أشهر. غير أنّ المزيد من الضغط الأميركي، معطوفاً على الخسائر الميدانية – كما حدث في الشجاعية، حيث سقط العشرات من جنود النخبة بين قتيل وجريح في عملية تصدٍّ واحدة -، قد يدفعان إسرائيل إلى التراجع عن موقفها. وإذ يترقّب الجنود الإسرائيليون مزيداً من تلك الخسائر، وهو ما دفع الوحدات المتوغّلة في الميدان في أكثر من مكان في شمال القطاع وجنوبه، إلى تنفيذ «انسحابات تكتيكية»، مع إعادة التموضع دفاعيّاً بعيداً من نقاط الاحتكاك المباشر، فإنّ زيارة سوليفان، التي ستتبعها زيارةٌ لوزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، الأسبوع المقبل، فضلاً عن زيارات لاحقة لعدد كبير من المسؤولين الأميركيين، من شأنها أن تدفع ربما، جنباً إلى جنب المعطيات الميدانية المشار إليها، إلى تليين الموقف والانتقال إلى تموضع حربي أقلّ حدّة.

Exit mobile version