تتجاوز ردود حزب الله المتسلسلة على اعتداءات العدو نتائجها التكتيكية القاسية، كما عبّرت وسائل الإعلام الإسرائيلية، على مستوى خسائر العدو البشرية ومفاعيلها المتصلة بمعادلات الردع، وترتقي تداعياتها إلى طبقة أعلى تتصل بمؤسسات القرار السياسي والأمني في كيان العدو، ونتيجة دخول الولايات المتحدة على خط المواجهة من موقع الردع والاحتضان والدعم لكيان العدو.
وقد عمد جيش العدو، الإثنين الماضي، إلى استغلال التطورات الميدانية والرسائل الردعية التي افترض أنها ستكون مؤثرة في قرارات حزب الله وخياراته، لتغيير قواعد الاشتباك التي فرضها الحزب على الحدود مع فلسطين المحتلة، فاستهدف نقاطاً للمقاومة الإسلامية أدت إلى سقوط ثلاثة شهداء. ويبدو أن منشأ رهانات العدو يعود إلى فرضية النتائج المترتبة على استدعائه أكثر من 300 ألف جندي انضموا إلى الجيش النظامي، إذ بات لديه الآن أكثر من 500 ألف جندي في حالة جهوزية، بالتزامن مع إرسال الولايات المتحدة حاملة الطائرات «فورد» برفقة مدمرات وطرادات، مظللة برسائل وتهديدات أميركية على ألسنة الطاقم السياسي الأمني كله، وعلى رأسهم الرئيس جو بايدن.
كما راهن العدو على أن حجم الخسائر الهائلة التي تلقاها نتيجة «طوفان الأقصى»، والهجوم الانتقامي الذي بدأه من دون أي خطوط حمر أو حد أدنى من الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية، بدعم أميركي وغربي، سيثني حزب الله عن الرد، خصوصاً أن عدد الشهداء محدود وأن الجولة حينئذٍ قد انتهت، على أمل أن يساهم ذلك في تمكينه من فرض معادلة تهدف إلى تقييد حزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية.
في مواجهة هذا السيناريو، تعمد حزب الله في ردوده إلى أن يكون متسلسلاً وبمزايا متعددة، في رسالة إضافية إلى أنه سيكون حاسماً وحازماً في الرد على اعتداءات العدو أياً كانت الظروف. فكان رده الأول على مقر قيادة فرقة الجليل في أفيفيم، ثم استهداف آلية لجيش العدو أدى إلى احتراقها، في مقابل اعتداءاته على الأراضي اللبنانية وعلى استهداف نقاط رصد واستطلاع للمقاومة. ورداً على سقوط الشهداء، كان الرد الأخير أمس، والذي أدى إلى سقوط قتلى وجرحى، يُضافون إلى ثلاثة جنود إسرائيليين بينهم ضابط برتبة مقدم، قُتلوا في العملية التي نفذتها سرايا القدس الإثنين الماضي.
لم تبقَ هذه الأبعاد والرسائل مجرد تقديرات (وإن كانت صريحة وواضحة)، وإنما حضرت على نحو صريح في كيان العدو، وممن عبّروا عنها بصورة صريحة، رئيس الاستخبارات العسكرية السابق اللواء تامير هايمن (2018 – 2021)، الذي قال إن «حزب الله متمسّك بمفهوم معادلات الردع. كلما قُتل عناصر له سينتقم لهم. وطالما أننا نهاجم بنى تحتية لبنانية، سيهاجم بنى تحتية في إسرائيل. هذا هو تفسير الصواريخ ضد الدروع التي أطلقها على الجيش الإسرائيلي».
في ضوء ما تقدم، تترتب على جولة ردود حزب الله ضد الاعتداءات الإسرائيلية مروحة من النتائج والرسائل:
– تتميز الردود بأنها ذات أبعاد إستراتيجية في عدة اتجاهات، منها ما يتصل بمجمل المعادلات وقواعد الاشتباك على الحدود مع لبنان، وأخرى تتصل بخيارات مؤسسات التقدير والقرار في كيان العدو. كما تحمل هذه الردود أبعاداً أوسع مدى كونها أتت في أعقاب التهديدات والحشود الأميركية، وأكدت بالممارسة أن قوى المقاومة في لبنان لن تكون على الحياد.
– أحبطت الردود محاولة جيش العدو فرض قواعد اشتباك جديدة على الحدود مع لبنان، وبدّدت رهاناته على مفاعيل الأجواء الحربية والعدوانية والتدميرية التي حاول استغلالها عبر الصورة التي يروج لها بأن «رب البيت جنّ».
– أظهرت رسالة حزب الله الدموية تصميمه على كبح الجنون الإسرائيلي، وأفهم قيادة العدو أنه في جهوزية كاملة ولديه ثقة تامة بقدرته على كبح هذا الجنون، بالاستناد إلى «ما يعلمه العدو وما لا يعلمه».
– أفهم حزب الله قيادة العدو، بالممارسة العملياتية، أنه مهما كانت مستويات اعتداءاته باتجاه لبنان، بالاستناد إلى رهانه على مفاعيل الدعم الأميركي والغربي وحالة الجنون والتطرف التي ينتهجها، فإنه سيرد عليها بما يتناسب. وأن فرضية الانحناء أمام العاصفة عندما يتعلق الأمر بأمن المقاومة والشعب اللبناني لا مكان لها. ويمكن وضع إصدار بيانات رسمية يُعلن فيها عن مسؤوليته تظهيراً لهذا التصميم. ووضع ضرباته في سياقاتها الصحيحة، إضافة إلى إعلانه مسؤوليته عما ينفذه مقاوموه.
ولا تخفى أهمية هذا المفهوم ورسوخه في وعي قادة العدو، إذ إن توهمه بوجود أي تردد أو الاكتفاء بردود شكلية في مواجهة اعتداءاته، وتحديداً في هذه الظروف (الحرب على غزة، واستدعاء الاحتياط والدعم والحشد الأميركي)، سيجرّئه على مزيد من الارتقاء العملياتي، بغض النظر عن سياقاتها الميدانية، وقد يدفعه ذلك إلى تقديرات مبنية على أوهام وحسابات مضللة، يترتب عليه خيارات عملياتية أكثر عدوانية. وقد حال حزب الله بالردود التي نفذها والبيانات التي أصدرها دون تشكل أي انطباعات وأوهام لدى قيادة العدو. وأفهمهم أن عليهم أن يكونوا أكثر حذراً في أدائهم العملياتي، وبأن أي تجاوز للحدود سيؤدي إلى جباية أثمان متناسبة.
– كشف حزب الله، بردوده المتوالية، عن أن خياراته قبل حاملة الطائرات الأميركية وبعدها، وقبل تهديدات المسؤولين الأميركيين وبعدها، هي نفسها، وأن الرسائل التهويلية كلها لم يكن لها أي تأثير في خياراته، وأن على العدو أن يُحسِن قراءة التطورات الميدانية على الحدود اللبنانية – الفلسطينية.