الحرب التي كثيرا ما أرادتها “حماس” كيف سيسهم الهجوم الذي قامت به هذه الحركة بزعزعة النظام الناشئ في الشرق الأوسط؟

فاجأ هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الجميع تقريباً، والمفاجأة الأقسى كانت لإسرائيل، التي جهدت للقيام برد فعل فيما راح مئات المقاتلين يتسللون من قطاع غزة عبر الحدود لتنفيذ حملتهم الإرهابية، لكن “حماس” في الحقيقة، خلال الأشهر التي سبقت هذا الهجوم، حذرت من دنو لحظة الصدام من إمكانية اندلاعه قريباً. ففي أواخر أغسطس (آب)، وفي حديث مع قناة إخبارية لبنانية، قال القائد رقم اثنين في الحركة، صلاح العاروري، الموجود في بيروت، إن سياسات الحكومة الإسرائيلية، خصوصاً ما وصفه بسياسة الاستيلاء على الأراضي في الضفة الغربية، ورغبة إسرائيل في التحكم بالمسجد الأقصى في القدس، قد تشعل حرباً إقليمية. وأفاد قائلاً، “إننا نتحضر لحرب شاملة، ونناقش بدقة مع الأطراف المعنية توقعات هذه الحرب”. وبالفعل، في أبريل (نيسان)، اجتمع وفد من “حماس” في بيروت بحسن نصر الله، قائد “حزب الله”، وهو التنظيم الإرهابي اللبناني، وذلك لمناقشة التعاون بين “حماس” والحزب من منطلق أنهما “محور مقاومة” ضد إسرائيل. ولم يكن ذاك الاجتماع الأول بين الطرفين، إذ إن المسؤولين في “حماس” و”حزب الله” وفيلق القدس الإيراني يقومون منذ سنوات باجتماعات دورية منتظمة في إيران ولبنان. وعقب حرب مايو (أيار) الصاروخية بين “حماس” وإسرائيل عام 2021، كتب محرر صحيفة لبنانية مقربة من “حزب الله”، أن “حماس” و”حزب الله” وإيران نسقوا القتال من “غرفة عمليات مشتركة” في بيروت.

وفي الأسابيع والأشهر التي سبقت هجوم السابع من أكتوبر، لم تكن “حماس” تفصح علناً أنها ستهاجم إسرائيل، لكن بالنسبة إلى أي مراقب لأوضاع المنطقة فإن نواياها كانت واضحة تماماً. وكان البعض قد رأى عقب سيطرة “حماس” على غزة سنة 2007 أن هذه الحركة قد تصبح أكثر اعتدالاً بتوليها السلطة، بيد أن الفكرة القائلة إن “حماس” ستبدل نهجها وأساليبها، مثلت على الدوام تمنيات متفائلة، إذ إن “حماس” في السابع من أكتوبر أظهرت بوضوح تام ما تعمل من أجله وما تسعى إليه. وعلى رغم أن المجزرة استلزمها على الأرجح أشهراً للإعداد والتخطيط قبل التنفيذ، فإن قرار تنفيذها الآن مرتبط على ما يبدو بمخاوف “حماس” تجاه علاقات التطبيع المرتقبة بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وأيضاً بالفرصة التي أتاحتها حالة الفوضى السياسية والاجتماعية اللاحقة بإسرائيل.

اللحظة المواتية

عندما طرح العاروري احتمال الحرب الإقليمية، كان العنف في الضفة الغربية يسجل أعلى مستويات له على الإطلاق، إذ كانت الهجمات المسلحة الفلسطينية ضد الإسرائيليين في تصعيد، وكانت القوات الإسرائيلية تنفذ هناك بعض أوسع عملياتها المضادة للإرهاب منذ سنوات. وفي القدس، خاض المصلون الفلسطينيون وقوات الأمن الإسرائيلية صدامات في المسجد الأقصى، الذي يمثل أحد أقدس المواقع في الإسلام، وموقع جبل الهيكل، أحد أقدس المواقع اليهودية. وقد مارس الجناح اليميني المتطرف في إسرائيل ضغطاً لإلغاء الاتفاق القديم الذي يحظر على غير المسلمين الصلاة في هذا المجمع (أو الموقع). وبعد قيام القوات الإسرائيلية باقتحام المسجد (الأقصى) في أبريل، معتقلة رجالاً فلسطينيين ومعتدية عليهم، سارعت “حماس” لاستغلال الوضع ودعت الفلسطينيين إلى “التحرك للدفاع عن المسجد الأقصى”. وفي سبتمبر (أيلول)، أخرجت القوات الإسرائيلية المصلين الفلسطينيين من الموقع كي تسمح للمستوطنين الإسرائيليين بزيارة المكان. وبعد السابع من أكتوبر برر محمد الضيف، قائد “كتائب القسام” الجناح العسكري لـ”حماس”، الهجمات على المدنيين الإسرائيليين باعتبارها دفاعاً عن الأقصى، حتى إنه سمى الهجوم “عملية طوفان الأقصى”. وتشكل دعاوى الدفاع عن الأقصى دعاية سياسية جيدة، وهي قادرة حتى على تعبئة آخرين (من خارج حركة حماس) للتحرك (إذ في الثامن من أكتوبر، مثلاً، قتل شرطي مصري إسرائيليين ودليلهما السياحي المصري في الإسكندرية)، بيد أن تلك الدعاوى تشكل ذريعة، وليست سبباً للحرب التي أطلقتها “حماس”.

احتمال تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية مثل، أكثر من أي أمر آخر في الحقيقة، العامل الذي دفع “حماس” إلى القيام بهجومها، إذ إن تصعيداً كهذا، وفق حسابات قيادات الحركة (حماس)، من شأنه عرقلة الجهود الدبلوماسية المستجدة التي، بحسبهم، ستقوض موقع القضية الفلسطينية بالنسبة إلى الدول العربية والإسلامية. وأكثر من ذلك، يمكن للتطبيع المذكور أن يمتن تحالفاً فعالاً ضد إيران ووكلائها، ومن بينهم “حماس” و”حزب الله”، لذا فإن الأخيرين (حماس وحزب الله) لم يقوما فقط بتصعيد خطابهما التحريضي، بل قاما على ما يبدو بالانخراط معاً في التخطيط الاستراتيجي لهجوم “حماس”. وفي هذا الإطار، قال نائب مستشار الأمن القومي (الأميركي) جوناثان فاينر في مقابلة على قناة أخبار “سي بي أس” في التاسع من أكتوبر إن إيران كانت “متواطئة على نحو كبير” بالهجوم نظراً إلى السنوات الطويلة التي مولت فيها “حماس” ودربتها وسلحتها. فرعاية الدول للإرهاب والوكلاء هي دائماً الأخطر حين تتماشى مصالح تلك الدول تماشياً تاماً مع مصالح وكلائها. وهنا، فإن “حماس” و”حزب الله” وإيران لديها جميعاً دوافع مشتركة قوية لعرقلة صفقة التطبيع وتقويضها.

بدأ التخطيط لمجزرة “حماس” منذ سنة في الأقل، وفق ما قاله مسؤولون استخباراتيون غربيون وشرق أوسطيون لصحيفة “الواشنطن بوست”، وذلك من خلال “دعم أساس من الحلفاء الإيرانيين” (اقرأ: حزب الله). وهذا التخطيط العملياتي يصيب ويوافق طبيعة “حماس” الأساسية، الملتزمة مهمة تدمير إسرائيل ومعارضة حل الدولتين. وجاءت مساعي التطبيع المحتمل مع إسرائيل في المنطقة لتمد “حماس” بذريعة مواتية للهجوم فوراً.

أدلى قادة من “حماس” وحزب الله وإيران جميعاً خلال الأسابيع القليلة الماضية بخطب ومواقف تدين التطبيع مع “العدو الصهيوني”. لقد رأوا أن تأسيس علاقات دبلوماسية بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية يمثل حدثاً مفصلياً ونقطة تحول. فهذا التطبيع إن حصل يمكنه أن يخلق تحالفاً دفاعياً فعالاً بمواجهة إيران، ويؤدي عملياً إلى إلغاء الفيتو الفلسطيني على العرب والمسلمين الذين يفكرون بإقامة علاقات سلمية مع إسرائيل، إذ في الثاني من أكتوبر، شن نصر الله ضمن خطاب تلفزيوني حملة على الصفقة المحتملة قائلاً: “كل دولة توقع معاهدة تطبيع (مع إسرائيل) يجب أن تدان وينبغي شجب أفعالها. إنها خطوة بالغة الخطورة وطعنة [في الظهر] للشعب الفلسطيني والمسجد الأقصى، وتخل عن فلسطين”. وقد أصدر قادة “حماس” بدورهم مواقف مماثلة. كذلك فإن “حماس” وداعميها في بيروت وطهران رأوا أمامهم فرصة سانحة. فالفوضى السياسية والاجتماعية بإسرائيل في الآونة الأخيرة أقنعت نصر الله بأن إسرائيل هي فعلاً “أوهى من بيت العنكبوت” – كما وصف قبل سنوات. وفي فبراير (شباط) شرح (نصر الله) قائلاً إن الأزمة السياسية الإسرائيلية تتسبب بضعف داخلي وبمشكلات أمنية لإسرائيل. و”حماس” من جهتها رأت أن حدود غزة هشة أمام الهجوم ما دام المسؤولون العسكريون الإسرائيليون قلصوا عدد الجنود الإسرائيليين هناك، معتمدين أكثر على أنظمة المراقبة والاستشعار، والأسلحة الرشاشة الآلية التي يجري التحكم بها من بعد (استخدمت “حماس” المسيرات لتعطيل أجزاء من أنظمة الجيش الإسرائيلي للاتصالات الخلوية، مما جعل عديداً من تلك الأنظمة الآلية خارج الخدمة).

من المبكر بعد أيام قليلة من الهجوم أن نعرف أي دور مباشر، في حال وجوده، قد تكون لعبته إيران و”حزب الله” من ناحية التخطيط أو التحضير للهجمات. إلى الآن يبدو أن “حماس” قامت لوحدها بتنفيذ الهجوم المنسق على التجمعات السكانية الإسرائيلية. إلا أن عملية “حماس” هذه تأتي مستلهمة على نحو مباشر من كتاب “حزب الله” عن قواعد اللعبة، وهي القواعد التي يتدرب الجيش الإسرائيلي منذ سنوات على مواجهتها عند الحدود الشمالية. وجزء من الصدمة بالنسبة إلى الإسرائيليين تمثل برؤية عملية تكتيكية عادية – تجتاح المناطق السكنية الإسرائيلية وتقتل وتخطف المدنيين، وتصور في مشاهد فيديو المقاتلين وهم يسيطرون على مناطق إسرائيلية، وتلك مشاهد تلحق فجوة عميقة في شعور الإسرائيليين بالأمن والردع – تنفذ بنجاح، لكن عند حدود أخرى.

إشعال شرارة الحرب  

في بيان صادر في السابع من أكتوبر، أثنى إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، على “النصر العظيم” و”الانتصار المبهر”، كما حيا “مقاتلي (حماس) المؤمنين والشجعان” وحمل على “الانهزاميين” – القادة العرب الساعين إلى التطبيع مع إسرائيل. من ثم، بعد التعبير عن توجهات “حماس” الحقيقية، تعهد هنية بتمديد القتال إلى الضفة الغربية وعميقاً في قلب إسرائيل ودعا “الأمة العربية – الإسلامية جمعاء” إلى الالتحاق بالمعركة بقدر المستطاع. والهدف؟ تحرير أسرى “حماس” من السجون الإسرائيلية من ثم “تحرير” المسجد الأقصى وسائر فلسطين التاريخية، بكلمات أخرى، تدمير إسرائيل.

و”حماس” من خلال اختراق دفاعات إسرائيل على هذا النحو المذهل لم تسع فقط إلى تشجيع الآخرين للإقدام والقيام بذلك (إذ تقول، في الجوهر، “نحن هاجمنا إسرائيل، ويمكنكم القيام بهذا أيضاً”)، بل سعت أيضاً إلى إقناع المملكة العربية السعودية ودول عربية وإسلامية أخرى للتخلي عن خطط تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وكما ذكر هنية في بيانه “نقول لجميع الدول، بمن فيها أحبتنا الدول العربية: عليكم أن تعرفوا أن هذا الكيان العاجز عن حماية نفسه من مقاتلينا، غير قادر على منحكم الأمن والحماية”. بعض الدول العربية قد ينتبه الآن لتحذيرات هنية، لكن عندما يهدأ الغبار فإن ما ستستخلصه هذه الدول من الحرب سيكون في اتجاه معاكس تماماً، إذ من المرجح أن ترى القوى الإقليمية، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، أن خلاصة ما حصل تفترض التعاون لمواجهة الشبكات المتنامية لإرهابيي إيران وميليشياتها وحلفائها، وهذا ناد لا يضم “حماس” و”حزب الله” وحسب بل أيضاً الحوثيين في اليمن والميليشيات الشيعية في العراق. الدروس المستخلصة من هذه الحرب بالنسبة إلى دول الخليج ستكون متعلقة بإيران، وبشبكة وكلائها عموماً، وليس فقط “حماس”، لكن لا شك، على المدى القريب في الأقل، فإن مجزرة “حماس” تسببت بضربة لاحتمالات التطبيع. وقد قال المسؤولون الإسرائيليون بوضوح إنه لن يكون هناك عودة إلى الوضع الذي كان سائداً قبل الحرب المتمثل بقبض “حماس” على السلطة في غزة، كما لا يمكن لإسرائيل التسامح إزاء استمرار “حماس” في احتجاز 150 رهينة، بينهم أطفال وأجانب يتضمنون عدداً غير محدد من الأميركيين. ويمكن القول إن التطبيع الآن بات خارج طاولة البحث، فيما إسرائيل تذهب لقتال “حماس” في غزة، ويعاني المواطنون الفلسطينيون عواقب الحرب المأسوية.

على أن باقي العالم قد يصل أخيراً للانتباه بأن “حماس”، بمختلف أجنحتها، هي منظمة إرهابية وينبغي معاملتها على هذا الأساس، إذ إن هناك مدنيين من 25 بلداً في الأقل إلى جانب الإسرائيليين قتلوا، وخطفوا، أو فقدوا في هجوم “حماس”. وأعلن البيت الأبيض في 10 أكتوبر أن هناك في الأقل 14 قتيلاً أميركياً و20 مفقوداً في أقل تقدير. ومن اللافت ههنا أن بيان هنية لم يصدر من قيادة الجناح الإرهابي في “حماس”، بل مما يزعم بأنه مكتبها السياسي، وذاك يقوض تماماً الأسطورة القائلة إن لـ”حماس” جناحين منفصلين، عسكرياً وسياسياً.

على “حماس” اليوم أن تعرف بأن إسرائيل سترد بشدة على هجماتها، خصوصاً إزاء العدد الكبير من الرهائن الذين أخذهم مقاتلوها إلى غزة. وقد يكون من خطتها أيضاً استدراج إسرائيل إلى معركة من بيت إلى بيت في قطاع غزة، حيث أنشأت أنفاقاً وخطوط دفاع مدنية واسعة هدفها بالتحديد إلحاق خسائر ثقيلة بالجنود الإسرائيليين الذين يدخلون القطاع، بيد أن مصدر اندفاعة “حماس” لتنفيذ عملية ضخمة كهذه يعود على الأرجح إلى دعم “حزب الله” لها، وربما أيضاً وكلاء آخرين تابعين لإيران. وبالفعل أطلق “حزب الله” صواريخ على إسرائيل، وحاول التسلل إلى المناطق السكنية في الجهة الإسرائيلية من الحدود، ونفذ هجمة عبر الحدود بالمسيرات. وإذا دخلت القوات البرية الإسرائيلية إلى غزة، يمكن لـ”حزب الله” أن يفتح جبهة ثانية أو حتى ثالثة عبر مهاجمة الجنود الإسرائيليين من لبنان ومن القسم السوري لمرتفعات الجولان. وينبغي هنا تذكر كلام العاروري في أغسطس الماضي حين قال إن “حماس” تناقش احتمالات حرب إقليمية “بمشاركة جميع الأطراف المعنية”. فإمكانية حصول اشتعال أفقي للجبهات الأخرى تمثل أمراً تعول عليه “حماس”، إذ حتى الحوثيين في اليمن والميليشيات الشيعية في العراق قاموا بدورهم بإطلاق تهديداتهم.

سبق أن رأى البعض أن مسؤوليات الحوكمة قد تؤدي بـ”حماس” إلى الاعتدال، وبأن مبدأ الحركة التأسيسي القائل بتدمير إسرائيل قد يتوارى في زحمة مسؤوليات الحياة اليومية كرفع المهملات وتأمين معاشات المعلمين في غزة، إذ إن الباحثة سارة روي رأت، مثلاً، أن المؤسسات الاجتماعية الإسلامية التابعة لـ”حماس” في غزة والضفة الغربية “تتجه إلى مقاربة معتدلة للتغيير نحو التنظيم والاستقرار، بدل الفوضى والاضطراب”. إلا أن “حماس”، مستخدمة غزة كملاذ آمن لها، جندت قوة قتالية كبيرة ودربتها وأنشأت بنية تحتية خاصة بها لإنتاج الصواريخ والمدافع وحفر شبكات الأنفاق المعقدة. وبدلاً من التزام وقف نار طويل الأمد يمكن الغزاويين من العمل في إسرائيل وتطوير اقتصادهم، اختارت “حماس” إشعال حرب ليس لها سوى هدف واحد، وفق توصيف قيادتها السياسية. “إنه الجهاد الأكبر الذي لن يسفر منه سوى النصر أو الشهادة”، صاح هنية قائلاً فيما كان مقاتلو حركته ينفذون هجومهم في السابع من أكتوبر.

ماثيو ليفيت، باحث في “فرومير – ويكسلير” (Fromer-Wexler) مدير برنامج “راينهارد بروغرام” (Reinhard Program) لمكافحة الإرهاب والتجسس في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. له كتاب “حزب الله: البصمات الدولية لحزب الله اللبناني” (Hezbollah: The Global Footprint of Lebanon”s Party of God).

مترجم عن فورين أفيرز

Exit mobile version