شفيق ملك-سفير الشمال
صَدَق القول المأثور أن التاريخ يكرِّرُ نفسه عند كل حقبة زمنية لكنه يعود بأوجه مختلفة.
جاءت صباح يوم السبت في السابع من شهر أكتوبر هذا العام صيحة مدوية وصلت أصداؤها إلى جميع دول العالم.
صرخة “طوفان الأقصى” من قلب قطاع غزة عبرت عنوة الحدود البرية الجنوبية للمستوطنات الإسرائيلية، الغلاف الجغرافي الطبيعي لقطاع غزة من جميع الاتجاهات برا وبحرا وجوا.
انطلق فدائيو القطاع بمجموعة من المقاتلين لا يتجاوز عددهم الالفين مظللا مسارها آلاف الصواريخ المتجهة عبر الأراضي المحتلة، وفي مختلف قرى المستوطنات الإسرائيلية.
عند ساعة الصفر 6:30 صباحا عبرت المجموعات المقاتلة الحاجز الفولاذي الخرافي الذي تحدث عنه وزير الدفاع الإسرائيلي وتغنّى به إذ استغرق بناؤه عشر سنوات بكلفة مليار دولار أمريكي. هذا الجدار وليد فكرة خط بارليف السد الترابي الشهير الذي دمَّره سابقا جيش مصر العربي في حرب أكتوبر عام 1973، مسترداً لمصر كرامتها العربية.
اليوم سَيطر أحفاد النكبة لعام 1948 على جسم الحاجز الفولاذي الذكي الذي تم اختراقه عبر معابر عديدة، دون خوف أو وجل، ودون تلقف لإنذار من الجانب الإسرائيلي ساعة انطلاق الاجتياح التاريخي.
هكذا قام مقاتلو غزة بعنفوان المقاتل العربي بالاستيلاء على غلاف قطاع غزة الجغرافي بطول 65 كم، وانتشروا في مستوطناتها وأدركوا حراس الحاجز وهم نيام في أوكارهم دون أي مقاومة.
تلك هي لحظات تاريخية تروى للأجيال القادمة. هكذا كرَّر التاريخ نفسه مرة أخرى بعد 50 عاما بفخر وإباء في تحطيم قدرة دولة إسرائيل العسكرية متجاوزا ما يسمى “أسطورة القبة الحديدية”.
اتوقف هنا، مستغربا لذهول الشعب العربي أمام الموقف العدائي لسكان غزة من قبل الدول الغربية والأوروبية بتحيُّزهم لسياسة إسرائيل العنصرية تجاه القطاع، أمر طبيعي خبرناه عبر التاريخ. حَجْبُ المجتمع الدولي لأدائه الإنساني نحو الصراع لم يكن مستغربا، بعدم إصدار أي موقف رسمي أقلَّه بياناً يشجب آلة القتل الدائرة في القطاع وما يعانيه سكان غزة من قتل وتهجير ونزوح وتدمير للبنى التحتية.
تجاوز رقم الضحايا الآلاف من القتلى والجرحى والتدمير للأبراج السكنية مع نقص شديد في الغذاء والدواء. انقطاع التيار الكهربائي وانعدام الماء للسكان جميعا، أكَّده نداء من منظمة الصحة العالمية، حذَّر من كارثة إنسانية في غزة مع قرب نفاذ الوقود والإمدادات الصحية ودُنو النظام الصحي في قطاع غزة من الانهيار.
كل هذا الوصف وما يدور من رَحى الحرب المستعرة والقتال في كل مكان. نرى المؤسسات الدولية وكأنها في سبات عميق، فجاء الصمت سيد الموقف السياسي. انتقل الصراع في غزة إلى حرب إبادة بعد بدء تدمير المستشفيات في القطاع وسقوط مئات الضحايا في ساحة المعركة.
من وحي الأحداث تعود بنا الذاكرة إلى “وعد بلفور” بقيام دولة إسرائيل ومواقف الحكومات البريطانية المتعاقبة مُذْذاك، منذ قيام دولة صهيون في الأراضي الفلسطينية، وما تبعه من تسليح ودعم لليهود والمهاجرين منهم، من كل حدب وصوب إلى فلسطين المغتصبة عام 1948. بدءاً بالهجرة الكبرى ليهود روسيا واعتراف هذه الأخيرة بدولة اسرائيل. الولايات المتحدة الأمريكية ما تزال بتأييدها المطلق حتى يومنا هذا. المجر، ألمانيا، فرنسا ودول أخرى أوروبية أرسلت جميعها يهود العالم إلى أرض السلام، أرض المهد المسيحي وكنيسة القيامة في فلسطين والقبلة الأولى للمسلمين عند المسجد الأقصى في القدس الشريف.
في بداية البانوراما للأسبوع الأول لها، وقف الرئيس الأمريكي جو بايدن غاضباً ومستاءً، واصفاً الفلسطينيين بالإرهابيين في حين نتنياهو وصفهم بداعش وبكل وقاحة انتحل دور الضحية وناشد المجتمع الدولي بأن الفلسطينيين قاموا بقتلهم وذبحهم وأسرهم. في حين إنه خلال الأسبوع الأول للمعارك التي طالت القطاع فإن إسرائيل ألقت قنابل في أسبوع واحد أكثر مما ألقته الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان في مدة عام.
أسرع الرئيس بايدن بإطلاق بوارجه العملاقة جيرالد فورد وأيزنهاور إلى البحر الأبيض المتوسط لترسيا مقابل شواطئ إسرائيل حاملة معها رسائل هامة أولها، طمأنة الحكومة الإسرائيلية أي أن أمريكا بعديدها وعدَّتها إلى جانبها.
أما الجانب الحقيقي لقدوم تلك البوارج، هو لردع أي جهة من القوى الإقليمية في الدخول ساحة الصراع. أعني كل من الدول العربية، اليمن، العراق، سوريا ولبنان ممثلا بحزب الله اللبناني.
رئيس وزراء بريطانيا ريتشي سوناك أكد لنظيره الإسرائيلي دعم بلاده الراسخ لإسرائيل. هذا الموقف كان مؤكدا منذ بداية الأحداث مما استدعى ارسال سفن أخرى تابعة للبحرية الملكية البريطانية. كل هذه الحشود البحرية من الجانب الأمريكي والبريطاني معاً، ما هو إلا رسالة واضحة إلى إيران بعدم التدخل العسكري المباشر في الصراع العربي الإسرائيلي. هي رسالة مباشرة إلى جميع أذرعتها العسكرية في الإقليم والمنطقة بعدم الانخراط في فتح جبهات جديدة مع إسرائيل.
في هذا السياق نفسه جاء بيان صادر من المفوضية الأوروبية يطلب من تركيا أن تختار هل ستكون مع الاتحاد الأوروبي والناتو أم أنها ستقف مع إيران؟ الموقف الروسي يحذر من حرب إقليمية وفشل صريح في مجلس الأمن للتوصل إلى أي قرار يدين الاعتداء الإسرائيلي لقطاع غزة.
صورة واضحة المعالم لا تحتاج إلى تحليل، إنما هي إبراز مواقف دول المنطقة والإقليم من الصراع القائم في غزة.
الرحلات المكوكية لوزير الخارجية الأمريكية ومحادثاته مع رؤساء دول المنطقة العربية بما فيها إسرائيل ما هي إلا محاولة للتوصل إلى تسوية ما في شأن هذا الصراع أقلُّه تهدئة القتال القائم في قطاع غزة أو وقف لإطلاق النار.
في المقابل وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان، قام فعلا بزيارات الى العراق سوريا ولبنان فجاءت تصريحاته أقرب إلى تصعيد سياسي ملحوظ “وقت الحلول السياسية بدأ ينفذ واحتمال توسع الحرب يقترب من الحتمية”. كما حذر الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي “باتساع نطاق الحرب والاقتتال إلى سائر الجبهات”.
في خضم الأحداث التي تدور في المنطقة والإقليم، خصوصا ما يحدث يوميا في الجنوب اللبناني من اضطرابات بهدف وحدة الساحات ضمن قواعد الاشتباك التي أرسَتْها الأطراف المتنازعة، إلى جانب رسائل دولية نُقِلت إلى مسامع الحكومة اللبنانية المستقيلة وأطراف سياسية أخرى لتوخي الحذر وعدم الانخراط الفعلي في الحرب القائمة في غزة، آخرها زيارة وزيرة الخارجية الفرنسية إلى بيروت.
في هذا السياق الحكومة اللبنانية المستقيلة، تحاول أقصى جهدها الاجتماع بجميع وزرائها لاتخاذ القرارات الحكومية اللازمة لحماية الأمن الوطني اللبناني، إلا أن وزراء التيار ووزراء آخرين امتنعوا عن حضور الجلسات القائمة بالرغم ما تحمله هذه الحكومة من ملفات شائكة ورئيسية صَعُبَ عليها حتى الآن من فك رموزها وأبرزها:
– ملف الرئاسة وانتخاب رئيس البلاد وصل إلى حائط مسدود.
– الملف الاقتصادي وما آل إليه الوضع المعيشي المهترئ في لبنان.
– ملف النزوح السوري وما أدى إليه من انهيار في جزء كبير من البنى التحتية وتحول ديمغرافي في بعض القرى والمناطق اللبنانية.
– انكفاء عدد كبير من المؤسسات الحكومية عن خدمة المواطنين، في مثل هذه الملفات الحرجة والمصيرية.
هناك ملف آخر هو الأخذ في قرار الحرب والسلم للدولة اللبنانية في مثل هذه الظروف غير العادية. هذا الملف المصيري عجزت عنه الحكومة اللبنانية المستقيلة في اتخاذ مثل هذا القرار، لا لعدم تمكنها من ذلك، إنما سُلِب منها قسراً. هذا القرار الوطني بامتياز يحتاج إلى إجماع وطني لبناني شامل قد أصبح في مكان آخر ورقة تفاوض على طاولة المفاوضات الإيرانية الأمريكية. تمسَّك رئيس الوزراء اللبناني المستقيلة حكومته بالالتزام بالقرارات الأممية الصادرة من مجلس الأمن المتعلقة بلبنان وذات الصلة.
يظل لبنان وطنا مرهونا في عين العاصفة وقد يستمر وضعه الراهن دون استقرار إلى أيام أو أسابيع حتى تنجلي الصورة القاتمة في المنطقة والإقليم. ريثما يتم إعادة تقييم ما جرى من أحداث ونتائج للرحلات الدبلوماسية لدول المنطقة.
ما حدث بإلغاء القمة الرباعية في عمان الأردن وإبقاء زيارة الرئيس الأمريكي لإسرائيل مع كل هذه التطورات غير المسبوقة في المنطقة تحتاج إلى نبذ الفرقة وتوحيد الصفوف العربية خاصة ما بين الفصائل الفلسطينية لتوحيد الكلمة والهدف. قد يكون أحد الحلول العودة إلى مبادرة بيروت للسلام، والمؤتمر العربي الذي عقد حينها في بيروت عام 2002 ودعوة المغفور له الملك عبد الله بن عبد العزيز، بحل الدولتين وجعل القدس الشرقية عاصمة فلسطين.
حتى ذلك الحين يبقى لبنان أسيراً في صالة الانتظار، مترقِّباً لرياح التغيير القادمة من خارج الحدود. والله ولي الصابرين.
حمى الله لبنان واللبنانيين وأهلنا في غزة.
الكاتب: المهندس شفيق ملك