مقالات

غزَّة تعرِّي الخريطة الإدراكية الصهيونية والعربية

بوشرى احساسا-اللواء
كلنا يعرف ان الحرب بين فلسطين والكيان الغاصب ليست مجرد حرب حدودية فقط, بل أبعد وأعمق من ذلك فهي تشكل حربا وجودية بمختلف أبعادها العقائدية كانت أو التاريخية أو الاقتصادية أو الجيوسياسية, لذلك فكلا الطرفين يعمل دائما وأبدا على تطوير استراتيجياته المختلفة للبقاء والاستمرار، ان كان غاصبا محتلا  بذيوله او صاحب أرض وحق.
   والجيوب الاستيطانية عبر التاريخ ردات فعلها اتجاه كل أشكال المقاومة واحد وحسب مداها، فعندما يحصل هجوم على الكيان الغاصب والذي هو في حد ذاته دفاعا للطرف المغتصبة أرضه فطبيعي جدا أن تصبح الخريطة الادراكية للكيان المحتل أكثر شراسة مما كانت عليه بداية الاستيطان، كما نراه في الواقع الفلسطيني والكيان المحتل, اذ منذ أول مؤتمر صهيوني بزعامة تيودور هرتزل في مدينة بازل بسويسرا يوم 29 اغسطس 1897، والذي نتج عنه المنظمة الصهيونية العالمية لتنفيذ برنامجه الذي يهدف الى: اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين يضمنه القانون العام. فبنظري مع هذه المنظمة تبلور وبشكل معلن وواضح معها الفكر المريض غير السوي في قلب مفهوم الابادة وكل شي له علاقة بخطاب العنف والعنصرية في خريطتهم الادراكية اتجاه أرض فلسطين تحديدا،ومصدر ذلك كله من التوراة  المحرفة ومضمون القيم فيها، فيكفي ان نطلع على حوارات الحاخام الصهيوني مانيس فريدمان وكتابه «الجريمة المقدسة» لنستوعب عقيدتهم ونزعتها المتعطشة للاجرام والقتل والتهجير والتطهير العرقي في ابادة الشعب الفلسطيني بشتى الوسائل, وبدم بارد لاستخدامهم التوراة وأسفارها التي طالتها أياديهم لتتناسب مع الخطاب الابادي الصهيوني في شرعنة الجريمة وممارستها ازاء هذا الشعب الذي يأبى ان يتنازل عن شبر واحد من أرضه، مما زعزع عندهم المفهوم المتداول والتقليدي ونتائجه بخضوع الطرف الاخر في الواقع الغربي الامريكي سابقا أو في ظل واقعهم المعاش.

من ينسى ذلك العنصر الابيض ذو النظرة الفوقية الذي أجبر الهنود الحمر ويجبرنا لحد الان على أنه المتحضر والمتفوق  جاء من أوربا لتطهير الارض من (الاغيار) ولا حق لهم في أرضهم، وشيدوا امبراطوريتهم على دمهم ولحمهم وعظامهم، وللاسف نفس المنظومة تكررت مع السكان الاصليين لاستراليا وكندا حيث دخلوا أرضهم وأبادوا سكانهم وأنهوا نسلهم, والمضحك المبكي في الامر أن بعد تصفيتهم يحتفون بهم في الاعياد الوطنية، ويعيدون كل مرة على مسامعهم تلك الاسطوانة التي تعبت من كثرة الاستعمال بوجوب احترام حقوق هذه الاقلية العرقية وأنها مستعدة لاعطائها بعضا من حقوقها من منح وتسهيلات وامتيازات وبعضا من مساحات أرضهم الأم للعيش فيها (المعازل الوطنية العرقية القديمة).

وهو نفس السياق الذي به استوطن الصهاينة أرض فلسطين ولكن بصيغة ونموذج القرن 21، فقد احتكروا الله لهم باعتبارهم الشعب المختار بل قطعة منه، وهم وحدهم يملكون مفاتيح السماء ولا بد من تحقيق مشيئة الله وشعبه باحتلال الارض الموعودة. ولا ولن يتحقق ذلك الا بابادة الشعب الفلسطيني صاحب الارض الحقيقي من أجل تقدم الرب وشعبه لنقاء عرقهم, فهم بمثابة عماليق كما جاء في توراتهم المحرفة لاحق لهم في الوجود والتملك والحياة لانهم ينغصون عليهم هناء الفردوس الاسرائيلي كما قال فريدمان، لذلك فالابادة في خريطتهم الادراكية لم يتغير فيها شئ الا في درجة الرغبة في الابادة حيث أصبح أكثر وحشية وضراوة، وزادت شهيتهم لرائحة الدم المسفوك لهذا الشعب الذي أبهرهم وأدهشهم بحبه للموت من أجل أرضه.عدا أنها واجب ديني تعليمي توراتي مقدس يشحن و يخدم حركتهم كمبرر لعقيدتهم.

من يقرأ التاريخ لا يستغرب من خبثهم بتضليل العالم  بتغطية جرائم بشعة ضد الانسانية بالباسها لباس الشرعية والمصداقية ليظهروها قيمة ثابتة في الخريطة الادراكية الصهيونية الامريكية والغربية، وهي نظرة حولاء مزدوجة بامتياز والأدهى من ذلك أنهم يصرون على جعلنا ننظر للأشياء الفارغة من القيمة والاخلاق  والحقوق…بنفس النظرة ومن منظور خريطتهم الادراكية الوهمية المزيفة اللاسوية  الى جانب براعتهم في التمثيل بلعب دور الضحية وايصالها للعالم عن طريق الاعلام المفبرك بشتى وسائله، مع تجريم كل من هو ضد مشروعهم.
عكس الخريطة الادراكية عند العرب تماما فلعدم ثباتها نجدها تتسم بتناقضات قد يحتار فيها البعض اذا ما غيبنا التاريخ العربي بايجابياته وسلبياته أو باضاعة سلسلة من سلاسله المحبكة بطريقة معقدة وبتدخل أيادي خفية دائما من داخل المنظومة العربية أو خارجها، أو باتفاق بينهما لصناعة فوضى تاريخية وليس تاريخا حقيقيا  لجيلنا واجيالنا القادمة, فقط من أجل الاستمرار بتضليلنا وتجهيلنا عن الحقيقة حتى نظل دائما في مسار القطيع, ولا نحيد عنه لمزيد من التحكم في عقولنا وثرواتنا وارضنا وهويتنا.

فالخريطة الادراكية العربية ليست ثابتة وانما تتمرجح بين الثابت والمتغير لطبيعة البيئة العربية والاسلامية, التي تستمد اغلب قراراتها وسلوكاتها وردات فعلها من النسيج الاجتماعي والفكري العربي والاسلامي خاصة, القائم على مجموعة من القيم التي تنظم حياة الفرد في جل مناحي حياته مع نفسه أو غيره.
الا انها مؤخرا وبسبب مراحل الاستعمار ومخلفاته في دولنا، والازدواجية الغربية والاجنبية والرمادية الصهيونية,اضافة الى الغيبوبة العربية التامة عن الساحة الدولية والثغرات بنظمه السياسية  والاعلامية، وهو امتداد للانهيار الحضاري الذي افقده الرهان التاريخي منذ سقوط الاندلس والخلافة الاسلامية وظهور الصهاينة على الواجهة بصناعة بريطانية وقيادة أمريكية، نجد أنفسنا بخريطتنا الادراكية والمعرفية والقيمية وفي ظل مسار مابعد الحداثة ننزلق لنفس مسار الكيان الغاصب وحلفائه, بل أسوأ من ذلك في التعامل مع مشاكلنا الداخلية والخارجية,اذ غرقنا في الفوضى والاقتتال باسم الدين وغيره من المسميات الفضفاضة لتخدير العالم، فاصبحنا نرى البنادق بدل أن تصوب نحو العدو الاسرائيلي تصوب نحو الاخوة ويقتل بعضهم بعضا بوكالة او غيرها لأطماع سلطوية او مذهبية… وداخل بلدان عربية يتم تحويلها الى ساحات معارك يصدر الى أراضيها كل أشكال التفاهات السياسية والحزبية والارهابية والازمات الداخيلة للدول العدوة للاسف مثل ما حصل  بالعراق وسوريا و اليمن و بلبنان (مخيم عين الحلوة) والافظع من ذلك تحويل المدنيين نساء واطفالا وشيوخا…الى دروع بشرية وتوريطهم بحرب لاصلة لهم بها.
هل يعقل ان نرى التنافس بين الخريطتين والفرق شاسع بينهما فهما رضعتا من فكر مختلف وهو أمر بديهي لاختلاف مرجعية وذاكرة كل واحدة منهما، فسنوات ضوئية تفصل بين الاثنتين، حيث نجد أن الصهيونية في جوهرها قامت على نظريات العنصرية والمؤامرة والقتل والتدمير فهي ثابتة في ذلك على خدمة مشروعها القومي الصهيوني ضاربة عرض الحائط كل الضوابط الاخلاقية والانسانية الى درجة ان هذه النظريات باتت جزء لا يتجزأ من الوعي الجمعي اليهودي الصهيوني وكذلك الغربي في اطار فلسفته المادية الاوحادية التي تفرغ الانسان من انسانيته.
أما العربية فهي متذبذبة بين هذا وذاك… وقد يرجع الامر في ذلك لذاكرته التاريخية وهويته العربية والاسلامية وقيمها التي تشكل لب ثقافته المستمد أغلبها من دينها من جهة, كما ذكرت سابقا وقساوة ما مورس عليها من مؤامرات وخيانات وضغوط سواء من عقر دارها أو من جاراتها أومن أجندات خارجية عدا الظلم والجور الصهيوني الامريكي الغربي من جهة أخرى, وهذا أثر على رؤيتها للاشياء بتبني أساليب قد تكون شبيهة بأساليب عدوتها ولا غرابة أن تكون النتيجة مأساوية لان ذلك سيؤدي الى تهديد المشروع الفلسطيني العربي بكسر كثير من التوازانات التي لها امتداد وعمر طويل بالمنطقة خارج فلسطين او داخلها،كما أن ذلك ضد القضية الفلسطينية فهو يخدم الاجندة الاسرائيلية الامريكية الغربية اكثر مما يخدمها في حد ذاتها، اضافة الى ان الخطر يتعداها الى جميع الدول العربية التي للاسف تفتقر الى استراتيجية و مشروع  مشترك قائم بذاته يدعم سيادتها بأوطانها ويحد من التدخلات الخارجية في شؤونها الداخلية والامنية والعسكرية والجيوسياسية والاقصادية.
  من يعرف فن المشي ويعشق السباحة بين سطور التاريخ لن يستغرب ما يحصل الان في غزة فالامر مخطط له من قبل عندما وصفت وزارة الخارجية الامريكية الشرق الاوسط بانه مصدر هائل للقوة الاستراتيجية بل هو اعظم كنز وجائزة مادية في تاريخ العالم في مجال الاستثمار بالذات، ليس في انتاج النفط والغاز فقط…وانما من سيتحكم في المنطقة هو من سيهيمن ويسيطر على العالم، وهو الكنز الذي سرقته من بريطانيا التي كانت تدير المنطقة انذاك اذ كانت أول من وضع اللبنة الاولى في طبقات التحكم من بينها غرس الكيان الغاصب في المنطقة الى جانب صناعة مجموعة شكلت واجهة عربية بملامح مزيفة لحماية مصالحها،هذه الواجهة نفسها أرخها البريطانيون في السجلات السرية وتم السماح الان بالاطلاع عليها لانها تدير الامور من وراء الكواليس نوعا ما بسبب الوجود الطاغي لامريكا كما ذكر ذلك المفكر الامريكي نعوم تشومسكي في كتابه «أوهام الشرق الاوسط».
وهذا سيقودنا حتما الى ما ذكره سابقاً الدكتور عبد الوهاب المسيري منذ اكثر من ثلاثين عاما في مفهوم العدو الحقيقي لنا، فنحن أمام مقصلة بين الحقيقة واللاحقيقة في التمييز بين عدونا الصهيوني اليهودي الاسرائيلي الغاصب و العنصر الشاذ كما أحب ان أسميه الوظيفي الموالي وهو من بيئتنا وصلبنا لكنه للاسف اختار أن يلعب أدوارا لا تمت بصلة لذاكرتنا ومرجعيتنا وهويتنا وهذا اخطر ما نعيشه الان فهو بمثابة البتر الثقافي الفكري لخريطتنا الادراكية البحتة، حتى يتم لهم المراد بصهينتنا وافراغنا وعالمنا من القيمة التي تعد من أهم السنن الكونية التي تحافظ على توازن الكرة الارضية بما فيها مختلف الكائنات الحية.
والاسثمار بدم اخوتنا بفلسطين وبغزة تحديدا والعراق وسوريا واليمن قبلا وبالعالم العربي مستقبلا, سيناريو قديم ومستمر وطويل الامد ومن يريد الاطلاع اكثر فليتعمق بمخطط برنارد لويس, فالباب بمصراعيه مفتوح وبمباركة المجتمع المحلي والدولي أمام القوى الاستعمارية الامريكية الغربية الصهيونية لمزيد من التحكم بالمنطقة جيوسياسيا وتعديل الجغرافيا مع الترانسفير والابارتيد ونقل أهل غزة الى سيناء المصرية,وبعدها التحول الى الضفة الغربية لترحيلهم للاردن بعد أن وضعت الملامح الاخيرة لخريطة شرق اوسط جديد مع ابتزاز النظم العربية الهشة… ومن منا لم يشاهد التنازلات عن بعض الاراضي لدول عربية مقابل وعود اسقاط  ديونها لدى المؤسسات المالية العالمية والغربية اوالاحتفاظ بامتيازات سلطوية…وتبقى كلمة السر وراء كل ما يحدث من عمليات الابادة والتدمير الوحشي هناك وكذا البنية التحتية للاراضي الفلسطينية في غزة  وقبلها المرفأ ببيروت وميناء طرطوس بسوريا على حساب ميناء حيفا وحفر قناة بن غوريون على حساب قناة السويس بمصر الى جانب تعطيل مشروع ناقل البحرين بالاردن من الكيان هو الرغبة المحمومة في مزيد من الاستلاء على مصادر الغاز والنفط  بالمنطقة و التحكم والطغيان عن طريق الممرات  التجارية, فأمريكا مصرة على ايجاد الية للحد من التمدد التجاري الصيني المتمثل في ممر الحزام والطريق امام ممر بايدن وان احرقت اليابس والاخضر على حساب اراضينا ومن دمائنا وان دل هذا على شئ فهو يدل اننا للاسف خرجنا من سكة التاريخ.
كاتبة وباحثة بمجال الفكر
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى