سمعة “واشنطن” السياسيّة دُفنت تحت حطام غزّة!
عماد الدين أديب -أساس ميديا |
في حسابات الربح والخسارة يمكن القول إنّ إدارة جو بايدن هي أكبر خاسر في معادلة نتائج حرب غزة. والذين يراهنون على دور أميركي فعّال في أزمة الرهائن، ودور محايد في الحرب الدائرة، ودور حاسم مؤثّر في إرغام إسرائيل على إيقاف فوري لإطلاق النار هم إمّا متفائلون إلى حدّ السذاجة المفرطة أو يراهنون على دور أميركي انتهى منذ أن وجّه الجنرال آيزنهاور إنذاره الشهير لدول العدوان الثلاثي عام 1956.
مات الجنرال آيزنهاور، وانتهى الدور الأميركي الفعّال بعد جورج بوش الأب، وزادت الكراهية والشكوك لدى العرب بعد جورج بوش الابن و11 أيلول، وبدأ استخدام شعار الديمقراطية للفوضى الخلّاقة في عهود بوش الابن، باراك أوباما، وما زال حتى تاريخه.
يقول سفير أميركي سابق عمل في الشرق الأوسط لسنوات إنّ “إدارة بايدن مثل الذي تزوّج 4 زوجات: الأولى أميركية، والثانية إسرائيلية، والثالثة إيرانية والرابعة عربية”.
ويضيف: “الأربع تشاجرن بشكل عنيف، والمطلوب منه أن ينصر إحداهن ضدّ الأخريات، لكنّه يواجه إشكاليات مستحيلة الحلّ”.
يضيف: “الأميركية الأولى، بنت بلده، تشعر بالخيانة، والثانية الإسرائيلية تتدلّل عليه وتضع نفسها المحظية الأولى، والإيرانية تشعر بالمظلومية بسبب العقوبات وتنتظر منه تحسين أحوالها، وأمّا الرابعة العربية فقد بدأت تدرك بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ بايدن زوج لا يمكن الثقة به أو التعويل عليه”.
الاجتماع الأخير لمجلس الحرب الإسرائيلي
في الوقت ذاته يمكن اختصار نتائج إجتماع مجلس الحرب الإسرائيلي الأخيرة على النحو التالي:
1- العودة إلى القتال والقتل بأكبر قدر من الخسائر بشكل يجعل خسائر الجولة الأولى للحرب بسيطة وهيّنة.
2- تطوير مرحلة التطهير والمطاردة للقوات البرّية في نطاق غزة بشكل يقوم على فلسفة التدمير بهدف التهجير.
3- فرض ضربات وحشية على فلسطينيّي الشمال للهجرة إلى الجنوب، وضربات ضدّ الجنوب لجعل فلسطينيّي الجنوب يتّجهون نحو رفح.
4- التشديد على أنّ نسبة الخسائر من المدنيين الفلسطينيين هي التي سوف ترغم “حماس” على التخلّي عن شرطها أن يكون ثمن إطلاق الرهائن العسكريين هو “تبييض السجون الإسرائيلية من المعتقلين الفلسطينيين”.
5- التركيز على معرفة مقرّ قادة القسّام (الضيف، السنوار، مروان عيسى) بهدف اغتيالهم، ويعني ذلك من منظور مجلس الحرب “النصر الكبير” الذي يمكن أن يخفّف من آثار جرح 7 أكتوبر.
6- التسريب المتعمّد عن استعداد إسرائيل للاستمرار في عملياتها حتى عام كامل.
تمّ التسريب على الرغم من التأثير السلبي على الاقتصاد الإسرائيلي، وتكاليف الحرب، ونقص عمالة الرجال في الحياة العامة.
7- التسريب المتعمّد عن رغبة نتانياهو في فرض منطقة أمنية عازلة في غزة وليس الوجود العربي في نطاق المستوطنات.
8- التسريب المتعمّد بتسليم واشنطن لتل أبيب قنابل مضادّة للأنفاق زنة الواحدة 2,000 رطل.
بداية مرحلة التطهير
باختصار الجولة الأولى عسكرياً لإسرائيل كانت للاختراق والتمركز، والجولة الحالية بداية التطهير بهدف التهجير وتهيئة مسرح العمليات لاصطياد قياديّي حماس.
الجولة الأولى لنتانياهو تفاوضياً كانت لإعادة التقويم واستثمار الإفراج عن الرهائن المدنيين لتخفيف أثر ضغوط عائلاتهم على الائتلاف الحاكم.
أهمّ، أهمّ، أهمّ قرار صدر عن نتانياهو أنّه وائتلافه الحاكم لن يستجيبوا لأيّ ضغط أميركي لإنهاء العمليات العسكرية قبل تحقيق الأهداف النهائية مهما كانت التكاليف والخسائر والجرائم ضدّ المدنيين الفلسطينيين، ومهما كانت لذلك تأثيرات عالمياً وإقليمياً وعلى معسكر السلام العربي، وحتى لو هدّد اتّفاقيّتَي كامب ديفيد ووادي عربة.
يرى البعض أنّ نتانياهو مثل الثور الهائج المجروح المستعدّ أن يضحّي بأيّ شيء وكلّ شيء حتى ينجو بمستقبله السياسي الذي دخل مرحلة الاحتضار.
بعد ذلك كلّه يمكن القول: وقوع الرئيس الأميركي وإدارته في إشكالية ما يسمّى بالإنكليزية (lose lose)، أي موقف الخاسر في كلّ الاتجاهات أينما ذهب! وكيفما فعل!
لماذا؟؟ سؤال منطقي لا بدّ من طرحه.
إشكالية هذه الإدارة الأميركية مركّبة ومتعدّدة:
أوّلاً: أنّها نسخة مكرّرة من مجموعة باراك أوباما ذاتها لكن مع معادلات دولية مختلفة، ومؤشّرات اقتصادية أضعف، وشعبية جماهيرية أقلّ.
ثانياً: أنّ قدرة الإدارة على اتخاذ وتمرير قرارات استراتيجية وكبرى في الداخل والخارج صعبة وبعيدة بسبب نسب الأقلية للحزب الديمقراطي في مجلسَي الشيوخ والنواب.
ثالثاً: هناك 3 سياسات معلنة تضاربت في عهدها:
1- وعود بايدن أثناء الحملة.
2- وعوده في أوّل مئة يوم.
3- عودته عن كثير من هذه الوعود.
رابعاً: التغيير الاستراتيجي من أن يكون الشرق الأوسط هو مركز الاهتمام إلى التحوّل نحو جنوب بحر الصين والباسيفيكي.
خامساً: التورّط بوعود في حرب مكلفة للغاية على الجميع لا يستطيع الاقتصاد الأميركي تمويلها، وهو ما يجعل واشنطن في موقف العجز أمام أوكرانيا (الموعودة) وروسيا (العدوّة).
سادساً: منذ يوم 7 أكتوبر وهناك “قول الشيء ونقيضه داخل إدارة بايدن” حول حرب غزة. وظهر التناقض الحادّ والمخيف بين تملّق الجنون الإسرائيلي منذ اللحظة الأولى وبين الالتزام الأخلاقي الذي كانت السياسة الأميركية تتشدّق به دائماً.
إنفصام في الإدارة الأميركية
آخر هذا التناقض هو الإصرار على ضرورة احترام سلامة المدنيين مع التصويت ضدّ الإيقاف الفوري لإطلاق النار!
من أبرز عمليات التناقض لهذه الإدارة المشاركة في السعي إلى الهدن الإنسانية وإدخال مساعدات مع دعم إسرائيل في قرارها باستئناف العمليات العسكرية. وكأنّ إدارة بايدن تقول: “أطعموهم وشرّبوهم وعالجوهم وأيضاً اقتلوهم”!
كذلك الأمر في كلمات بلينكن وهو يغادر المنطقة، إذ طلب حماية المدنيين لكن ألقى اللوم على حماس وأيّد استمرار العمليات.
أكبر التناقضات ما صرّحت به كامالا هاريس في دبي برفضها القاطع لعمليات التهجير القسري لسكان غزة مع استمرار دعمها للعمليات. هنا يبرز السؤال: إذا استمرّت العمليات الوحشية تطاردهم من الشمال إلى الجنوب فأين سيتوجّهون؟
داخلياً وهذا هو مركز المركز لأيّ صانع قرار أميركي فهو في أزمة.
الرضاء الجمعي والكلّي عن أدائه بشكل عام هو بنسبة 41%، بمعنى أنّ 59% من مجموع البالغين من الديمقراطيين والجمهوريين والمستقلّين غير راضين عن أدائه.
في ما يتّصل بالسياسة الخارجية لإدارته فإنّ 66% غير راضين، وبالنسبة للسياسة تجاه أوكرانيا فإنّ 62% غير راضين.
بالنسبة لسياسة بايدن تجاه الشرق الأوسط فإنّ نسبة عدم الرضا تصل إلى 66%.
أمّا بالنسبة للاقتصاد الأميركي، وهو العنصر الأهمّ والحاسم في الانتخابات الرئاسية، فإنّ أكثر من ثلثي العينة غير راضين عن هذا الأداء بعد مرور 113 أسبوعاً على رئاسته.
ثاني عنصر يجعل مهمّته صعبة هي أنّ الرجل على الرغم من كلّ ما أعطاه لإسرائيل منذ يوم 7 أكتوبر حتى الآن فإنّه لم يحصل على الرضا والمباركة السياسية لبنيامين نتانياهو الذي سُرّب عنه قوله في الاجتماع الأخير مع قيادة تحالفه: “بايدن رجل ضعيف ولا يستطيع الضغط علينا. وأنا الوحيد القادر على ترويض السياسة الأميركية”.
جاء على لسان العديد من القيادات الإسرائيلية عقب زيارات بلينكن وويليام بيرنز أنّه “لن نستجيب لأيّ ضغط أميركي حول المدى الزمني أو مدى التدمير أو القتل الذي سوف نمارسه في غزة حتى تحقيق أهدافنا”.
في آخر كلمات بلينكن وهو يغادر المنطقة قبل ساعات حين كان على سلّم الطائرة: “إنّ اندلاع القتال الأخير يرجع لحماس التي انتهكت وخالفت الاتفاق”.
هذا بالطبع يعطي ضوءاً أخضر للمرّة الألف لإسرائيل لكي تستمرّ في عملياتها الوحشية.
ثالثة مشاكل بايدن أنّه فقد أيّ ثقة من حلفائه التقليديين بالسياسة الأميركية التي كانت تتدخّل لتصويب بوصلة المنطقة.
فما تراه بعض العواصم العربية الصديقة تقليدياً أنّ ما لقيت من سلوك إدارة بايدن أخيراً أنّها قامت بخيانة المنطقة “خيانة مزدوجة”. الأولى مع تغليب مصلحة إسرائيل والثانية حينما قامت سرّاً بإعادة تأهيل إيران مادّياً واقتصادياً على الرغم من عملياتها التخريبية في المنطقة.
في الخليج يقولون: “علناً كانت الخيانة مع إسرائيل، وسرّاً كانت العلاقة الأميركية مع إيران”.
إذاً ما معنى أنّ بايدن غير قادر على الحصول على رضى ناخبيه، وغير كاف لدعم الإسرائيليين، ومكروه من حلفائه العرب، ومشكوك فيه إيرانياً مهما فعل؟؟
إنّه خاسر على طول الخطّ.