مقالات

أنا لست بافلوفيًا بل غزّاويًا

مع بدء العدوان الروسي على أوكرانيا، انتسبت لمجموعة افتراضية على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي تحت عنوان “من أجل حرية أوكرانيا”. وكان هدف المجموعة الأساسي هو دعم نضال الاوكرانيين ضد الاحتلال الروسي مع تركيز الضوء على الابعاد الإنسانية الكارثية لهذا العدوان الآثم. واثناء أشهر العدوان، كنت متابعًا لصيقًا لهذه المجموعة ومتفاعلاً في أغلب حملاتها التي أدانت الغزو الروسي وجرائمه. واستمر تفاعلي الإيجابي مع المجموعة حتى جاء يوم السابع من تشرين الأول / أكتوبر الماضي بمستجداته الفلسطينية والشرق أوسطية، لاكتشف في اليوم التالي بأن عنوان المجموعة قد تغيّر دون أية محاولة، ولو شكلية، لاستشارة أعضائها وصار “من اجل حرية اوكرانيا وإسرائيل”.

هذا التغيير وضعني أمام مجموعة من الأسئلة التي تطرح نفسها بشكل تلقائي في مثل هذه المواقف. وبعد أن قمت بتوجيه رسالة مفصّلة إلى ميّسر المجموعة منددًا بهذا الدمج، وقمت بالانسحاب منها، توقفت أمام تعليقات المديح والتأييد لمثل هذا الانحراف عن هدف المجموعة من العدد الأكبر من الأعضاء. فهل كان التزامي بالانضمام إليهم والتضامن الى جانبهم مع قضية الشعب الأوكراني مجرد حسابات خاطئة دفعني اليها حماسي ضد المعتدي الروسي مًسقطًا بذلك تجربة وطني سوريا ومتجاوزًا الاختلافات التي يمكن أن تكون عميقة؟ لم تتأخر الإجابة التي استندت فيما استندت اليه لرفضي القاطع للمنطق البافلوفي الذي لطالما هاجمته وندّدت به في مختلف المجالات السياسية والثقافية والمجتمعية.

لن يتغير إذًا موقفي من الحدث الأوكراني، وعدالة قضية الشعب الأوكراني، كرد فعل على تضامن الرئيس فلوديمير زيلينسكي مع حكومة تل ابيب إثر هجوم فصائل فلسطينية على أراضٍ فلسطينية محتلة. كما لم أبنِ موقفي مما حصل ويحصل في غزة استنادًا على تبعية حركة حماس لطرف آخر من معادلة القتل في سوريا، ألا وهو جمهورية إيران الإسلامية. ولن يؤثّر في تضامني مع الشعب الفلسطيني قيام بعض من اغتصب قيادته، دينيًا وسياسيًا، بتأييد قتل شعبي السوري على يد الطغاة. ولن أتراجع عن تحديد الجاني والضحية بوضوح وصوتٍ عالٍ، إن انتصر المتظاهرون في تونس لغزة وهم يرفعون صورًا لبشار الأسد.

إدانتي لقتل المدنيين واختطافهم من قبل بعض مسلحي حماس، لا تؤثّر بسعيي إلى النظر إلى السياق بشموليته دونًا عن التوقف عند جزئياته، على أهميتها وانسانيتها. وسأستمر باعتبار من يعتمد المعايير المزدوجة والمتناقضة بالنظر إلى الحدث الفلسطيني كمن يستخدم واقيات النظر التي توضع للبغال حتى لا تتشتت نظراتها ذات اليمين وذات اليسار. وسأجد في مظاهرات التضامن الحاشدة في الدار البيضاء وفي الرباط حدثًا إيجابيًا ومؤشّرًا على وعيٍ قومي وانساني يتقاسمه أخوتي في المغرب رغم عدم خروج عُشرهم للتنديد بالهجمات الوحشية التي تعرّض لها شعبي وموطني طوال السنوات السابقة. وسأقرأ ما تنشره صحيفة لبنانية، لطالما بررت قتل وتهجير السوريين، من نصوصٍ مهمة تُعنى بالحدث الفلسطيني، وربما أعاود نشرها إن لزم.

لن أكون المتابع الساذج عفوًا أو انتقاءً لخطابات الطغاة إن هم تبنّوا قضية غزة قولاً لا فعلاً كعادتهم في وطن عربي ابتلى بالاستبداد المستدام. كما أنني سأستهجن مواقف شركائي في قضيتي السورية إن هم فاضلوا بتضامنهم، مبرئين أنفسهم من الموقف الإنساني والأخلاقي الواجب تجاه فلسطين. وإن دافعت حركة فرنسا الأبية ورئيسها التاريخي جان لوك ميلانشون، المعروف بمواقفه المخزية من الملف السوري، وحيدة عن الشعب الفلسطيني في ساحة فرنسية يهيمن عليها الرعب من اتخاذ الموقف، فسأشد على يده دون أن أنسى هزال موقفه من قضية شعبي السوري.

الموقف السياسي أو الأخلاقي او الإنساني يُبنى على القناعة والمحاكمة العاقلة ولا يمكن ان يُبنى على المقارنة أو القياس أو الانتقاء أو رد الفعل. فكما نندّدُ بازدواجية المعايير لدى الغرب “الحرّ”، حيث مهبط حقوق الإنسان وشرعتها، لا يمكن لنا إلا أن نتضامن مع كل القضايا الإنسانية والأخلاقية العادلة مهما خذلنا بعض المقربين منها نفاقًا أو عقيدةً.

وأخيرًا وليس آخرًا، فأبغض الأحوال هو إن كنّا نعاني من عقدة النقص التي تصيب في مقتلٍ عدداً ممن يبحثون عن اندماجٍ يُحابي مستضيفيهم في بلدٍ غربيٍ، ويعتقدون بأنهم إن تخلّوا عن المبادئ الكونية التي تعترف بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، سيحظون بنظرة رضا من الرجل “الأبيض”. يُلاحظ ذلك بشكل متصاعد في أوساط بعض المهاجرين، وخصوصًا منهم، أولئك الذين يسعون الى اندماج ظاهري وقادرين على أن يدفعوا ثمنه تخلياً عن كل المبادئ التي ادّعو يومًا بأنهم على صلة بها.

ما يؤلم في حمأة النقاشات والجدالات السائدة في هذه الأيام، بروز أصوات من داخل إسرائيل تُندّد بصريح العبارة بما يقترفه جنود الاحتلال أكثر مما يجرؤ بعض أقرباء القضية على البوح به. ومن شبه المقرف والباعث على الغثيان، مزايدة البعض ممن هم بعيدون عن مسرح الأحداث وغير مرتبطين بمآلاته، في مدح المعتدي وفي الدفاع عن وحشيته، مقابل أن يتقرّبوا من المستعمر الجديد ويُطبّعوا معه بأمرٍ من المستعمر القديم.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى