حقيقة غزة: ليتها كانت مؤامرة!
عماد الدين أديب -أساس ميديا |
أخطر ما حادث هذه الأيام هو أنّنا نواجه أخطر صراع دموي في تاريخ المنطقة دون وجود أهداف نهائية واضحة يتم الوصول إليها إما بالتسوية السياسية أو بالحرب الحاسمة النتائج.
ذكر لي خبير استراتيجي مطّلع: “في العادة، فإنّ القادة يديرون الأزمة، لكن في هذه الجولة تبيّن أنّ الأزمة هي التي تدير القادة”.
إذا صدقت مقولة هذا الخبير الاستراتيجي فإنّ الانتخابات الرئاسية الأميركية هى التي تدير الرئيس الأميركي جو بايدن، وأزمة رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو مع الإئتلاف الحكومي ومع القضاء الإسرائيلي، تتحكمان فيه، وهزّ صورة الأمن الذي لا يُخترق هو الذي يحرّك الجيش والأجهزة الأمنية في إسرائيل.
وبعدما تأكدت إسرائيل من أنّ القرار سيصدر بأغلبية ساحقة ضدها، استغلت تصريح الرئيس بايدن الذي قال فيه إنّه “لا خطوط حمر موضوعة أمام حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. وبناء عليه بدأت الحملة البريّة ضدّ قطاع غزّة.
تمّ عزل القطاع عن العالم: لا كهرباء، لا إنترنت، لا خطوط هاتف، لا مازوت.
وأصبحت مشافي غزّة هدفاً موصوفاً من قبل جيش الإحتلال الإسرائيلي بحجّة أنّها تخبّىء تحتها قواعد عسكرية لقيادة حماس. وهو ما نفاه متحدث باسم حماس واعتبرها حجة لقصف المستشفيات.
لا يوجد “خطة نهائية” أميركية إسرائيلية
دماء كثيرة، ومجازر إضافية منتظرة في الساعات المقبلة سيقدم عليها جيش الإحتلال. وللتدليل على مأساة عدم وجود أهداف نهائية واضحة متفق عليها، سواء بالتوافق أو بالتآمر أو بتلاقي المصالح، نكشف حواراً دار بين زعيم عربي ووزير الخارجية الأمريكية أنطوني بلينكن في زيارته الأخيرة للمنطقة.
سأل الزعيم العربي بلينكين: “ما الذي تهدف إليه التحركات الأميركية الحالية تجاه الصراع الحالي؟”.
وعاد وأضاف: “أريد أن أفهم ما هو The end game (الهدف النهائي من اللعبة)؟”.
ردّ بلينكين على الفور: “لا يوجد هدف نهائي، نحن لدينا الآن 3 أهداف واضحة وفورية:
الأولى: إثبات أنّ الحزب الديموقراطي وبالذات بقيادة إدارة بايدن هو أفضل صديقٍ وحامٍ ومدافعٍ عن أمن اسرائيل.
الثاني: منع إيران ووكلائها من توسيع نطاق المواجهة.
الثالث: کسر آلة حماس العسكرية وتأمين إنقاذ الرهائن عامة، ومزدوجي الجنسية الأمريكية منهم خاصة.
انتهى الكلام المنسوب عن بلينكين.
وتأكدت مصادر عواصم عربية قريبة من المخابرات الأميركية والاستخبارات العسكرية في البنتاغون أنّه لا يوجد تصوّر واضح لأهداف استراتيجية أميركية إسرائيلية منظمة فى المستقبل القريب.
مصدر دبلوماسي خليجي يؤكّد التالي: “يبدو أنّ الأمريكيين يتعاملون مع هذه الأزمة part time (بنصف دوام)، بمعنى: “لكلّ حادث حديث”، ولكل فعل ردّ فعله، حسب الظروف والنتائج الواقعية”.
الأمر المؤكّد هذه الأيام أنّ الذي سوف يحدّد النتائج السياسية، بمعنى الربح أو الخسارة، لن يكون ما هو ناتج عن الأعمال العسكرية في مسرح العمليات، ولكن سيكون في بناءً على مسارين:
الأوّل: النشاط الاستخباري المحموم في توفير المعلومات الدقيقة الصحيحة عن واقع كلّ طرف.
الثاني: ما يدور فى القنوات الخلفية السريّة بين الأطراف الرئيسية.
الدور القطري المحوري
في هذا المسار تأتي قطر بمثابة اللاعب الأهم والأكثر مقبولية به كوسيط قادر على تأمين أي صفقة متعددة العناصر، تكون قابلة لتنفيذ عملية تبادل، سواء فى الشقّ المبدئي الخاص بالرهائن، وصولاً إلى ترتيبات التهدئة في قطاع غزة.
الدور القطري جوهري لأنّ الدوحة هي الطرف الوحيد الممسك بخيوط علاقات قوية ومقبولة مع كلّ الأضداد.
وقطر موثوقة لدى واشنطن وتل أبيب وباريس ولندن.
وقطر أيضاً موثوقة من إيران وتركيا، وهي التى تستضيف قيادة حماس (المكتب السياسي في أراضيها) وهي التي تمسك بخيوط العلاقة المالية مع قيادة حماس.
سبق لقطر أن لعبت هذا الدور بنجاح مع الشيشان، وطالبان، وفي مؤتمر الدوحة بالملف اللبناني، وفي تأمين الوساطة للإفراج عن الرهائن بين واشنطن وطهران، والتوسط للإفراج عن رهائن غربيين مخطوفين في دول الساحل الافريقي.
غباء إسرائيل… وثبات مصر
الغباء السياسي الإسرائيلي يكمن في عدم فهمها لاستحالة قبول القاهرة تحت أي ظرف باستقبال لاجئين فلسطينيين في غزّة على أيّ أرض مصرية.
والمذهل أنّ مركزاً استراتيجياً إسرائيلياً نشر هذا الأسبوع عرضاً اقتصادياً لإسكان نازحي غزّة فى أحياء وضواحي مقاطعة 6 أكتوبر، والتجمع الخامس، والعاصمة الإدارية الجديدة، مقابل تقديم الجانب الإسرائيلي أسعاراً عالية لشراء الشقق في هذه المناطق المصرية.
مأساة العقل الإسرائيلي أنّه يريد حلّ مشكلة غزّة على حساب مصر، بأيّ شكل من الأشكال، على طريقة تحويل “صفقة القرن” الفاشلة إلى صفقة عقارية ناجحة.
ويأتي الرد سراً وعلناً، مراراً وتكراراً، بالأسلوب الدبلوماسي أو بالضغط، بالترهيب أو الترغيب، من الجانب المصري، بالرفض الكامل والتام.
آخر فصل من فصول هذه اللعبة الإسرائيلية هو السعي إلى صناعة مشهد إعلامي حول وجود وضع إنساني ضاغط في غزة، كمقدّمة يمكن ابتزاز القاهرة إنسانياً بعدها. إذ حين يحدث تكدّس على معبر رفح تأتي بعدها نداءات دولية تدعو مصر للشروع في عملية إيواء مؤقتة لآلاف النازحين.
وكعادة كلّ نزوح يبدأ مؤقتاً لينتهي أبدياً كما حدث في الأردن بعد النكبة وكما حدث في لبنان حيث مازال مئات آلاف الفلسطينيين في مخيمات تحوّلت إلى بؤر أمنية.
الذي لا يفهمه العقل الإسرائيلي أنّ مسألة مبادلة أراضٍ فلسطينية بأراضٍ مصرية أو تغيير سيادة مصر على جزء من سيناء مقابل أيّ منافع سياسية أو اقتصادية، هو أمر مرفوض تماماً من الرئيس، ومن الجيش المصري، ومن الرأي العام.
باختصار لا يوجد أحد، كائناً من كان، يمكن أن يقبل بأيّ شكل من الأشكال مثل هذا العرض، مهما كانت الضغوط أو مهما كان المقابل المعروض.
باختصار أرض سيناء أمن قومي ليست ولن تكون صفقه عقارية.
ولنا مثال واضح عمّا جرى في لبنان بعد أيلول الأسود، وفي الأردن بعد غزو العراق، والحرب الأهلية السورية التي أدّت إلى نزوح إلى لبنان والأردن وتركيا…
إستحالة التفاؤل
خلاصة القول إنّه لا يوجد ما يمكن تسميته بـMaster Plan للأسئلة الجوهرية في المنطقة:
1- مستقبل مفاوضات تسوية سياسية بين فلسطين وإسرائيل بعد نهاية المعارك.
2- مستقبل تبادل الرهائن الإسرائيليين مع المعتقلين الفلسطينيين.
3- مستقبل قطاع غزّة إذا ما تمّ هزيمة حماس عسكرياً.
4- مستقبل أيّ سلام إسرائيلي مقبل مع دول المنطقة.
5- مستقبل إيران ووكلائها في المنطقة.
6- مستقبل قيادة حماس المقيمة حتّى الآن في قطر.
يقول مسؤول عربي متعجباً ساخراً: “في الماضي كنّا نشكو من نظرية المؤامرة، والآن نتمنّى لو كان هناك مؤامرة بالفعل، لأنّ المؤامرة لها أهداف وقواعد وأساليب وأدوات ونتائج ويتمّ إدارتها بتخطيط دقيق”.
ويضيف هذا المسؤول: “ولكن ما جرى هذه المرّة هو فعل عشوائي يقابله ردّ فعل آخر أكثر عشوائية ودموية. لذلك كيف يمكن فهم ما حدث؟”.
إيران أرادت قلب موازين المنطقة وإفساد أيّ إمكانية لتقارب سعودي إسرائيلي فأعطت الضوء الأخضر لحماس كي تقوم بما كانت تخطط له منذ 30 شهراً، فتم اختراق الأمن الإسرائيلي، واستغل بايدن الفرصة لإثبات دعم غير مشروط لتل أبيب يدعمه فى معركة انتخاباته الرئاسية، واستغل نتانياهو الأزمة للخروج من أزماته الشخصية والسياسية، فأعطى الضوء الأخضر لعملية إبادة في غزّة دون أن يكون هناك هدف نهائي للإجابة على سؤال: “ماذا ستفعل إسرائيل بغزّة صبيحة اليوم التالي لهزيمة حماس؟”.
هناك رصاص أكثر من الكلمات، وأسئلة أكثر من الإجابات، وضغوط أكثر من الاستجابات، وخسائر أكثر من الأرباح، وتزوير وقائع أكثر من الإقرار بحقائق جديّة، ومعايير مزدوجة أكثر من عدالة مجرّدة في الأحكام.
هذا كلّه لا ينتج سوى فوضي خارج السيطرة فى عالم مأزوم ومرتبك يُعاد تشكيله وفي حالة عدم يقين مخيفة إلى حدّ الرعب.
إنّه زمن كلّ شيء فيه قابل للحدوث إلّا شيء واحد، وهو التفاؤل.