ليل غزة مكروه… أطفال وكبار يخشون النوم وسط القصف
ما إن تقترب الساعة من السادسة مساءً، حتى يسيطر التوتر على أغلب المناطق في قطاع غزة، على الرغم من أن القصف الإسرائيلي لا يعرف ليلاً أو نهاراً. يُسمَع القصف في ساعات الصباح الباكر، وعند أذان صلاة الفجر كما في الليل. لكن بالنسبة إلى أهالي القطاع، فإن ساعات الليل أكثر رعباً في ظل الظلام. إذ لا يملكون سوى بطاريات صغيرة يمكن إضاءتها لساعتين أو ثلاث، بسبب عدم القدرة على شحنها.
يُجمع غزيون على كرههم لساعات الليل. كل غزي يخشى أن تكون الليلة ليلته الأخيرة. هذا ما يقوله باسم أبو عطايا (17 عاماً)، وهو نازح في مدينة خان يونس جنوبيّ قطاع غزة، وكان يقيم في مخيم الشاطئ. أفراد من عائلته أيضاً كانوا قد نزحوا من بلدة بيت حانون شماليّ قطاع غزة. ومنذ جاء إلى الحياة، يقول إنه يشهد الاعتداءات الإسرائيلية، ولا تغيب طائرات الاستطلاع الإسرائيلية عن سماء غزة، مشيراً إلى أنه يكره الليل بشكلٍ عام، وهو الذي اختبر اعتداءات إسرائيلية عدة، ولطالما شعر بالقلق. لكن في العدوان الحالي، زاد القلق بنسبة كبيرة، وصار الموت حاضراً في ذهنه وفي مناماته.
كلما استيقظ أبو عطايا توجّه لأمه يسألها عمّن استُشهد من أفراد عائلته أو الأقارب أو المعارف. يومياً، يستقبل خبر استشهاد أحد من ذويه أو سكان منطقته في مخيم الشاطئ، لافتاً إلى أن جميعهم استُشهدوا ليلاً. يقول أبو عطايا لـ”العربي الجديد”: “أخاف من الليل، وأخاف ألّا أستيقظ بعد النوم. لا يتعلق الأمر بالخوف من الموت، بل أريد أن أبقى لأُسمع صوتي للعالم. كذلك أريد أن أصبح مهندساً وأُسمع الجميع صوت فلسطين في الخارج. هكذا أدافع عن حقوق شعبي في وجه الاحتلال الصهيوني”.
في مدينة حمد بمدينة خانيونس، يوجد آلاف الأطفال الذين يلعبون معاً أسفل البنايات. بعضهم بدأ يتقبل أصوات الصواريخ خلال فترة النهار ويتابع اللعب، فيما لا يبالي آخرون بأصوات القصف. لكن عند حلول الظلام، تنقلب الصورة تماماً. يبكي البعض طوال الليل، ويحاول آخرون وضع وسادة فوق الرأس علّها تخفف عنهم هول الصوت.
يقول الطفل آدم شهاب (9 سنوات)، وهو من مدينة غزة: “نكره الليل لأننا لا نعرف أين نذهب إذا ما تعرضنا للقصف”. ما زال يذكر العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2021 جيداً، وكيف نزح برفقة أسرته إلى مستشفى الشفاء مساءً عندما أغارت الطائرات الإسرائيلية على حيّ الرمال وارتكبت مجزرة في شارع الوحدة في مايو/ أيار من العام نفسه.
وصلت أسرة شهاب في مساء السابع عشر من شهر أكتوبر/ تشرين الأول إلى مدينة حمد، وتوقف أفرادها أكثر من مرة في أثناء السير في شاحنة برفقة عدد من عائلات غزية. كان الرعب يسيطر على الجميع، كما توضح والدة آدم، أحلام شهاب. وصلوا بعد أكثر من ساعتين، تاركين مدينة دير البلح التي تعرضت هي الأخرى لقصف بالقرب من مأواهم الذي لجأوا إليه أول مرة بعدما نزحوا من مدينة غزة.
أسفل إحدى بنايات مدينة حمد، تجلس أحلام شهاب برفقة أبنائها الأربعة. تقول لـ”العربي الجديد”: “آدم ودارين (7 سنوات) ولُطف (10 سنوات) ويزن (12 عاماً) يخافون أن نضطر إلى الهرب ليلاً وفقدان أغراضنا كما حصل في عدوان عام 2021، ونعود إلى المنزل لنجد كل شيء مدمراً بعد انتهاء الحرب”. لكن آدم يقاطعها ويقول: “لست خائفاً من ذلك”.
يضيف آدم في حديثه لـ”العربي الجديد”: “رأيت أطفالاً كثيرين استُشهدوا في هذه الحرب. قبل أكثر من عامين، استُشهد زميلي في الفصل، وأتخيل أن الكثير من زملائي في الفصل قد استُشهدوا في هذه الحرب. يقولون عبر الراديو إن آلاف الأطفال استُشهدوا حتى اليوم. لا أريد أن يموت أحد. لذلك، يرعبنا الليل، وهو الوقت الذي يُقتَل فيه الأطفال. يمكن أن يموت معظم الأطفال لأنهم لا يرون الطريق الذي يهربون من خلاله. الشوارع مدمرة والظلام مرعب”.
ويتجه الكثير من النازحين والغزيين إلى جنوب القطاع الذي أصبح مكتظاً أكثر من أي وقت مضى، إلى قضاء الليل مستيقظين، وباتوا يفضلون النوم في النهار والاستيقاظ في الليل. ويقول أحمد الزيناتي (35 عاماً) إنه وعائلته جميعهم أصبحوا ينامون بالتناوب داخل منزل للإيواء في النهار، ويقضون الليل في حالة ترقب لمكان القصف، حاملين أغراضهم تحسباً لأيّ ضرر وإخلاء قد يحصل في المنطقة التي يقيمون فيها داخل مدينة رفح جنوبيّ القطاع.
ويشير الزيناتي إلى أن منزله الواقع على مقربة من شارع صلاح الدين، الفاصل بين المنطقة الشرقية لمدينة خانيونس والمخيم والمنطقة الغربية قد دُمر. نزح صباح يوم 15 أكتوبر الماضي بعدما أُصيب منزله بأضرار في الطوابق العليا. وقضى ليلة صعبة برفقة أطفاله الثلاثة. ويقول إنه كلما حلّ الليل، ظهرت عليهم أعراض التوتر الشديد، فيجلسون في أحضان أهلهم، ويصرخون إذا ما ابتعدوا.
لم ينم نجله ناجي (9 سنوات) على مدى يومين متتاليين بسبب شدة القصف بالقرب من منزل الإيواء. ويقول والده لـ”العربي الجديد”: “الجيش الإسرائيلي يعتبر ساعات الليل مناسبة لتحقيق أهدافه العسكرية وقتل المدنيين. ولا يمكن للطفل أن يهرب من هذه الأخبار، ولا نستطيع إخفاء ما يحصل. الأطفال يشاهدون أطفالاً آخرين وقد باتوا تحت الأنقاض”.
وأعلنت وزارة الصحة ارتفاع حصيلة القصف الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة إلى 8306 شهداء، بينهم 3457 طفلاً. وقال المتحدث باسم الوزارة أشرف القدرة، إن “حصيلة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بلغت 8306 شهداء، منهم 3457 طفلاً و2136 سيدة، بالإضافة إلى إصابة أكثر من 21048 مواطناً بجراح مختلفة منذ 7 أكتوبر”. أضاف أن “الاحتلال أخرج 25 مستشفى عن الخدمة في القطاع، واستهدف 25 سيارة إسعاف، ونفذ 908 مجازر في القطاع”.
إلى ذلك، كان المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، قد أعلن أن “المدنيين والمرضى والعاملين الصحيين في قطاع غزة قضوا الليل في الظلام والخوف وسط القصف الإسرائيلي المكثف”. أضاف في بيان نشره على حسابه الرسمي عبر منصة “إكس”: “أعداد الجرحى في غزة تتزايد كل ساعة، فيما لا تستطيع سيارات الإسعاف الوصول إليهم بسبب انقطاع الاتصالات”.