مقالات

متى يتحرّر الموارنة من الحروب على الكرسي الأول؟

أيمن جزيني – أساس ميديا

هزّات عملية “طوفان الأقصى” والردّ الإسرائيلي الوحشي عليها، ستزعزع ثوابت كثيرة في المنطقة، وستطرح أسئلةً عن أدوار وكيانات، منها دور المسيحيين التاريخي، والموارنة منهم تحديداً في لبنان والمنطقة.
في الحلقة السابقة، أي الثالثة من هذه السلسلة، قارنّا بين أحوال المسيحيين عموماً، والموارنة خصوصاً، زمن وعد بلفور، وقيام “لبنان الكبير”، وبين أحوالهم في أيامنا هذه، ونحن على أبواب إعادة ترسيم للحدود والدول والأدوار…
في الحلقة الرابعة والأخيرة من هذه السلسلة، نبحث عن دور كان هنا. دور للبنان وللمسيحيين فيه، وعلى وجه الخصوص الموارنة منهم.

*************************

تغيّرت خريطة المنطقة كثيراً عما كانت عليه يوم أعلن الجنرال غورو “لبنان الكبير” من قصر الصنوبر، في 1 أيلول 1920. كان يقف بجانبه وقتها، البطريرك الماروني إلياس الحويك. فرنسا التي ذهب إليها الحويك وانتزع لبنان منها انتزاعاً بدعم بريطاني، تغيّرت أيضاً. المنطقة برمتها مرّت عليها حروب كثيرة وأيديولوجيات عديدة. تغيّرت وأُنهكت، دولاً وشعوباً وأفراداً.
لا تشبه الظروف الحالية في المنطقة، الظروف التي كانت عليها زمن الاستقلال. أكثر من ذلك، لا زعماء موارنة من وزن كميل شمعون وبشارة الخوري وإميل إده وبيار الجميل. لا رياض الصلح، أو صائب سلام أو كمال جنبلاط أو أحمد الأسعد أو نجله كامل الأسعد، في الجهة المقابلة.
المدّ القومي انقطع. نضب ماؤه. المدّ اليساري اختفى. الإسلاميون متّهمون وموضع شبهة. شبهة الإرهاب. التيارات الوطنية تقلّصت واضمحلّت حتى صار حجمها صفقةً هنا أو سمسرةً هناك. وصول العسكر إلى سدّة الحكم في دول المنطقة، وما رافقه من عسكرة للمجتمع والأفكار والسياسة والاقتصاد، أرهقها.
العراق صار عراقات. سوريا دُمّرت، وفُتّت نسيجها الاجتماعي واستُنزف جيشها. مصر خرجت من الصراع أو أُخرجت وكُبّلت بالديون. اليمن صار تهديداً شاملاً. السودان جائع ومقسّم. ليبيا عادت إلى جهويتها. الخليج غارق في نهضته الجديدة بينما بقية العرب مشغولون بصراعاتهم في الأزقة والزواريب.

وحدهما تركيا وإيران تقفان على قدميهما، وترميان المنطقة في أتون حروب وصراعات.

مسيحيو لبنان ليسوا استثناء
لم يعد المسيحيون في الشرق عموماً، ولا الأقليات، محطّ أنظار الغرب واهتمامه. حدث هذا منذ زمن. الأمثلة عليه كثيرة.
مسيحيو لبنان ليسوا استثناءً. أقصى درجات التضامن والعطف والأمومة، زيارة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وكلام يقال للمجاملة. مع الكلام لوحة للسيدة فيروز فيما مدينة على المتوسط فقدت مرفأها بانفجار هائل. بدا ماكرون يومها وكأنه يريد طرفاً آخر. بل قبل ذلك بكثير، حدث هذا في لبنان.
زمن الرئيس الشهيد رفيق الحريري. كان الاعتراض المسيحي الحقيقي عليه، أنه صار أيضاً، رجل الغرب في لبنان. كان رؤساء الدول الكبرى: الحنونة وغير الحنونة. كانوا  يأتون إليه هو، ويعرّجون على الآخرين في طريقهم.
كان رياض الصلح وبشارة الخوري معاً، في رجل واحد. يوم جاء الحريري الأب سأل كثر عن دور المسيحيين، والموارنة تحديداً. كانوا “مقاطعين”. خارج الجنّة السورية في لبنان. ثم عادوا عن مقاطعتهم، ودخلوها بالتدريج.
حين اكتملت عودتهم، انقلب الوطن الصغير إلى جهنم واسعة. قادتهم عادوا من المنافي والسجون إلى “جنّة السلطة” ومغانم تقاسمها. العائدون لم يروا في دور الموارنة غير مناكفة الشراكة وتصديع العيش المشترك ونهائية الكيان. صمّوا الآذان تهديداً بالإنكفاء نحو الأصغر. أمعنوا في الذهاب مع “الشيعية السياسية” نحو التعطيل الدستوري.

الدستور الهدف
المسيحيون لا يريدون الانتباه إلى ميزة لبنان في ظلّ ما يحصل في المنطقة. وحده كان ينفرد بين دول كثيرة بدستور لا تعطبه قوانين طوارىء. قدراته التشغيلية على تطوير البلد في مقدّمته الاصلاحية المعروفة باتفاق الطائف استثارت ماضي التسيُّد على البلد وكلّ أهله بدعوى الضمانات الدستورية لا الامتيازات الطائفية.
الدستور في الجمهورية الثانية وإصلاحاته كانوا الهدف الاول للقطع مع المنطقة. يريدون  من العرب المال والحلول في الربوع اللبنانية اصطيافاً، وليس مشاركتهم سياسياً. عن وعي لا عن عكسه، أسقطوا معنى تنظيم العلاقات اللبنانية الداخلية. سقوط البنود الناظمة في بلد كثيف الانتماءات والولاءات يعني الدخول في لعبة الروليت الروسية.
الدستور هذا الذين ما ارتضوه. لاحقاً جعلوه ملعباً للمزايدة السياسية، حيناً بدعشنة السُنة، وأحياناً بإحياء شيء هجين من تحالف الأقليات مع “الشيعية السياسية”عبر تفاهم عُرف باسم كنيسة “مار مخايل” مع الحزب. التيار العوني عقد هذا التفاهم عن تجرّؤ سياسي. القواتيون ليسوا معفيين من غزل ما توقف يوماً مع الشيعية السياسية التي أرادوا لها أن تأتي هي إليهم وهي الأقوى. في السياسة هذا كان مستحيلاً.

ما يزيد من استحالته “الموقف الحازم” من الحزب ضد سمير جعجع وما يتصل بمواضيه المتشعّبة وما يعتقدونه عن حاضره المتداخل. يحصل هذا بينما هناك “سرّ” بين نبيه بري ورئيس القوات لا يعرفه إلا الله والرسل بين معراب وعين التينة.
ارتدّت “المارونية السياسية” وانكفات إلى ماضيها ما قبل انفجار الحروب المُلبننة. انطلق شغفها في تعطيل دولة ودستور ما بعد الطائف الذي أخرج لبنان إلى العالم المضيء بكلفة وطن على الأرض وتحت أنقاضه مئتا ألف قتيل وجريح ومعوّق ومفقود.
ذهبت طوع إرادتها إلى التذاكي على محيط مرتبك ومُربك سمته العامة إسلامية أكثر من كونها عربية. انشطرت المسيحية الى فريقين رئيسيين: الأول قواتي ذهب نحو السُنة. الثاني عوني تزاوج مع الشيعة. اللغة السياسية التي رعت الانقسام المُدبّج أنه في حال ربح أحد الطرفين يربح المسيحيون عموماً. كان تذاكياً بدائياً.
الرديء أنّ العونيين أمعنوا في لعبة التعطيل للدستور بالتكافل والتضامن مع الشيعية السياسية. البدء كان من الدوحة وببدعة الثلث المعطّل. ما من قوى تمارس السياسة إلا وتبحث عن الروافع الاجتماعية والتاريخية لدفع مشروع الدولة نحو الأفضل. فقط عندنا في لبنان ااستُسيغت لعبة التعطيل حتى الثمالة.
الخروج على الدستور. والتذاكي على قرارات الشرعية الدولية، في لحظة ارتباك المنطقة اليوم يقعان موقع الجريمة بحق لبنان. وبقدر ما يجب التمسك بلبنان، إنما على معنى الـ 10452 كلم ، فينبغي التمسّك بقضايا الحق، وعلى رأسها قضية فلسطين. هذا قد يفرض صعوداً على المسيحيين ونزولاً من المسلمين لخلق تعاطف وتضامن وطنيين.

وطن النجوم
لبنان الآن يقف عارياً على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. عارياً من كلّ شيء: لا رئيس، ولا حاكم مصرف، وربما من دون قائد جيش، من دون قدرة على اتخاذ قرار السلم أو الحرب… أو حتى الحلم. وإذا ما توحّدت الجبهات ـ الساحات سيصبح بلا مطار. يحدث هذا كله برعاية انهيار مالي هو واحد من الأكبر عالمياً وتاريخياً.
لبنان الآن وطن معلّق على أحداث تدور حوله، وحده الزمن يعرف مآلاتها. التهديد بإعادته إلى العصر الحجري، والتلويح بإزالته من الخريطة، كلام إسرائيلي عادي ومكرّر. الحديث عن صيغة عيش جديدة بين أبنائه، ودستور جديد، حديث يومي.
لبنان دولة معطّلة ووطن معطّل، ودور كان ذات يوم هنا. يحصل هذا و “المارونية السياسية” غائبة ورافضة لأيّ حوار مع الآخر. عادت إلى زمن كانت فيه قوية لتطلب وطناً بقياساتها هي عبر بتره عن قضايا المنطقة. هذا لا يعني أبداً دخول الحرب او توحيد الساحات. بالمناسبة أين قائد الجيش من “فتح لاند” جديدة ظهرت في الجنوب منذ حرب 7 تشرين/أكتوبر. عدنا إلى نعي “شهداء” فلسطينيين، إنما بأسماء منظّمات ما كانت زمن الستينات والسبعينات. أسماء المنظمات الجديدة من طبيعة إسلامية، ربما هذا يبرّر لشعبوية مسيحية قلقاً ما، لكنه لا يفسّر هذر النخب المارونية وغيابها وتيهها السياسي.

دورٌ من دور
دور الموارنة من دور لبنان. دور لبنان أيضاً من دور الموارنة. لقد قال أكثر من ذلك الأب ميشال حايك في رسالته إلى المسيحيين عن دورهم “طًلب مني بإلحاح”. أما من أتى أولاً؛ البيضة أم الدجاجة، فليس مكانه هذه العُجالة.
لكن هذا الدور اضمحلّ. ذوى حدّ الاختفاء. الجامعات الأميركية والغربية تملأ العواصم العربية. وسائل التواصل الاجتماعي اليوم أين منها بيروت جريدة العرب؟ لم تعد بيروت تطبع. لم يعد أحد يقرأ أساساً. الترانزيت شغّال في كتب التاريخ فقط. لا استيراد ولا تصدير. نريد خبزنا كفاف يومنا، فحسب. القطاع المصرفي تبخّر كما تبخّرت أموال المودعين. لم نعد أهلاً للثقة. ثم إننا بلد على كفّ عفريت، بل على كفوف عفاريت. لم نعد نقرأ، ولا نطبع، ولا ننشر، ولا نحمي. لم نعد حتى نستقبل ضيوفاً مغضوباً عليهم في بلادهم. صرنا أشدّ عليهم وأقسى ما عدا ضيوف الحزب.
في هذا المشهد المأساوي، تدور رحى الحرب في فلسطين المحتلة. في قطاع غزة تحديداً لا حصراً. تنذر حرب غزة بالتوسّع. بحرب إقليمية موسّعة، وربما عالمية. لبنان غائب، يكاد يختصره ويختزله حزب الله في المشهد القائم.
المسيحيون غائبون تماماً، خصوصاً الموارنة. تحرّكاتهم في الداخل والخارج وعلى تخوم الحرب، تدور حول كرسي الرئاسة الأولى. يحجّون إلى كلّ العواصم وبين كلّ المحاور والأطراف، ومقصدهم بعبدا.

في المعارك الكبرى، كما التي تحدث على أرض فلسطين وفي الإقليم، يظهر معدن الأقليات. هذا وقتهم وهذا زمنهم. لم يُضطهد المسيحيون في الشرق، إلا عند هبوب رياح الغرب عليه، الغرب الصليبي أو الغرب الاستعماري، أو غرب الديمقراطية وحقوق الإنسان في هذا الهبوب.
يحدث هذا بينما الموارنة يقيمون الدنيا ولا يقعدونها، كما لا يقعدون مع بعضهم البعض، من أجل كرسي!

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى