العالم في حالة حرب ماذا وراء الانفجار العالمي للصراعات الدموية؟
يتزايد عدد النزاعات الدموية في أجزاء كثيرة من العالم. إضافة إلى هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) على إسرائيل، والهجوم الإسرائيلي على غزة، مما أثار شبح حرب أوسع في الشرق الأوسط، تصاعد العنف في أنحاء سوريا كلها، بما في ذلك موجة من الهجمات بالمسيرات المسلحة التي هددت القوات الأميركية المتمركزة هناك. وفي القوقاز في أواخر سبتمبر (أيلول)، استولت أذربيجان على جيب ناغورنو قره باغ المتنازع عليه – مما أجبر ما يقدر بنحو 150 ألف أرمني على الفرار من موطنهم التاريخي في الإقليم ومهد الطريق لتجدد القتال مع أرمينيا. وفي الوقت نفسه في أفريقيا، احتدمت الحرب الأهلية في السودان، وعاد النزاع إلى إثيوبيا، وكان استيلاء جيش النيجر على السلطة هناك في يوليو (تموز) هو الانقلاب السادس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا منذ عام 2020.
في الواقع، لخص تحليل تناول بيانات جمعها “برنامج أوبسالا لبيانات النزاعات” Uppsala Conflict Data Program، وأجراه “معهد بحوث السلام في أوسلو” Peace Research Institute Oslo، إلى أن عدد النزاعات في أنحاء العالم كله وشدتها وطولها هو في مستواه الأعلى منذ ما قبل نهاية الحرب الباردة. وسجلت الدراسة 55 نزاعاً نشطاً عام 2022، استمرت في المتوسط نحو ثماني سنوات إلى 11 سنة، بزيادة كبيرة عن 33 نزاعاً نشطاً استمرت في المتوسط سبع سنوات قبل عقد.
وعلى رغم زيادة عدد النزاعات، مر أكثر من عقد منذ التوصل إلى اتفاق سلام شامل بوساطة دولية لإنهاء الحرب. توقفت العمليات السياسية التي تقودها أو تساعد فيها الأمم المتحدة في ليبيا والسودان واليمن أو انهارت، ذلك أن النزاعات التي تبدو مجمدة – في بلدان مثل إثيوبيا وإسرائيل وميانمار – تزداد حماوة بوتيرة تنذر بالخطر. مع الغزو الروسي لأوكرانيا، عاد النزاع الشديد إلى أوروبا، التي تمتعت سابقاً بعقود عدة من السلام والاستقرار النسبيين. إلى جانب انتشار الحروب، حلت مستويات قياسية من الاضطرابات أصابت البشر. عام 2022، كان ربع سكان العالم – مليارا شخص – يعيشون في مناطق متأثرة بنزاعات، فقد بلغ عدد النازحين قسراً في أنحاء العالم كله رقماً قياسياً بلغ 108 ملايين شخص بحلول بداية عام 2023.
حتى الآن، كانت الاستجابة الدولية من جانب الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، التي استثمرت كلها بكثافة في بناء السلام في أعقاب الحرب الباردة، تتلخص في تحويل أهداف “السلام” من حل للنزاعات إلى إدارة للنزاعات، لكن الأحداث في الشرق الأوسط وأماكن أخرى تذكرنا بأن النزاعات لا يمكن إدارتها إلا لفترات طويلة. ومع اشتعال القتال في أنحاء العالم كله وبقاء الأسباب الجذرية للنزاعات من دون حل، تبدو الأدوات التقليدية لبناء السلام والتنمية غير فاعلة على نحو متزايد. والنتيجة هي أن فواتير المساعدات تزداد، ويصبح اللاجئون مهجرين، وتواصل المجتمعات الممزقة المعاناة. وثمة حاجة ملحة إلى نهج جديد لحل النزاعات وآثارها وإدارتها.
آلية معطلة
بعد خفض بين عامي 1990 و2007، بدأ العدد الإجمالي للنزاعات في أنحاء العالم كله في الارتفاع عام 2010، وفق “برنامج أوبسالا لبيانات النزاعات”. لقد بات الآن عدد الحروب الأهلية وبين الدول، والوفيات التي تسببها، في أعلى مستوياته منذ منتصف ثمانينيات القرن الـ20، وأعلنت الأمم المتحدة في يناير (كانون الثاني) أن عدد النزاعات الدموية في أنحاء العالم كله هو في أعلى مستوى له منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ومن المرجح في شكل متزايد أن تشتعل الحروب التي تتوقف في غضون سنة من توقفها، كما يحدث نحو خمس مرات في العام في المتوسط.
كما تصبح الحروب أكثر شيوعاً، ويصعب إنهاؤها، لعدد من الأسباب، أحدها هو الطبيعة المتغيرة للنزاع. تميل حروب القرن الـ21 إلى أن تخاض بين دول وجماعات مسلحة ملتزمة قضايا مختلفة مع إمكانية الوصول إلى الأسلحة المتقدمة نسبياً وغيرها من أشكال التكنولوجيا، فضلاً عن الأموال المكتسبة من الموارد الطبيعية والنشاط الإجرامي. وأصبح النزاع المعقد المتعدد الأطراف هو القاعدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ما أزال المبدأ التنظيمي الثنائي للمنافسة الغربية – السوفياتية الذي شكل إطار عديد من الحروب السابقة. وفي الآونة الأخيرة، أصبحت النزاعات أيضاً ذات طابع دولي متزايد. وتنجر بانتظام بلدان مثل روسيا والسعودية وتركيا ودولة الإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة، سواء في شكل غير مباشر أو مباشر، إلى حروب خارجية، كما شوهد مراراً وتكراراً في نزاعات الشرق الأوسط وأفريقيا. وكلما زاد عدد الأطراف المحلية والدولية المشاركة في نزاع، زادت صعوبة إنهائه.
أما الأمم المتحدة، التي كانت ذات يوم الوسيط المفضل في النزاعات، فقد جرى تهميشها. لقد أسهمت المنافسة الجيوسياسية بين الدول القوية في فقدان الأمم المتحدة لنفوذها. ويتأثر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في شكل خاص بهذه القوى. لقد أصبح راكداً إذ ابتلي بمنافسات دولية متزايدة بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، وبنهج تفاعلي في شكل متزايد في المجال السياسي الدولي. ويعني الجمود في مجلس الأمن أن الأمم المتحدة لا تستطيع عرض حلول أو توجيه اللوم على صعيد جرائم الحرب أو العدوان. وتصبح الفرق المفوضة من مجلس الأمن بحفظ السلام أو العمليات الانتقالية أكثر ندرة وكثيراً ما تكون قصيرة الأجل، ويفتقر المبعوثون الأمميون وقوات حفظ السلام الأممية وغير ذلك من المسؤولين الأمميين في شكل متزايد إلى النفوذ والصدقية مع الأطراف المتنازعة.
ففي يونيو (حزيران) الماضي، مثلاً، سعت مالي إلى سحب قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام المنتشرة منذ عقد بسبب توترات بين الحكومة والبعثة، بما في ذلك الخلاف حول دور القوات وتفويضها. ويقال إن أمراء الحرب المتنافسين في السودان رفضوا حتى التحدث إلى المبعوث الخاص للأمم المتحدة فولكر بيرتيس، قبل استقالته في سبتمبر. ويقول رئيس عمليات حفظ السلام في الأمم المتحدة، جان-بيار لاكروا، بأن الانقسامات داخل مجلس الأمن تعني أن بعثات الأمم المتحدة لم تعد قادرة على تحقيق “الهدف النهائي المتمثل في حفظ السلام” – أي ابتكار حلول سياسية دائمة – ويجب بدلاً من ذلك أن تكتفي بـ”أهداف وسيطة” مثل “الحفاظ على اتفاقات وقف إطلاق النار”.
بعد الطغيان المتزايد لسلسلة من الأزمات العالمية والأولويات السياسية الجديدة، بما في ذلك العدوان الروسي في أوروبا وانتهاج الصين سياسات حازمة، يرى عديد من واضعي السياسات الرفيعين في الولايات المتحدة وأوروبا قيمة محدودة في التدخل عسكرياً أو استثمار رأس مال سياسي كبير في النزاعات البعيدة التي يعتبرونها ذات عواقب استراتيجية ضئيلة. بدلاً من ذلك، تحول الاهتمام إلى التعامل مع تداعيات النزاعات – موجات اللاجئين وتهريب المخدرات والأسلحة عبر الحدود، على وجه الخصوص – بدلاً من أسبابها.
خفض المعايير
في مواجهة هذه المجموعة من التحديات، يتغير تصور ما هو ممكن بين مسؤولي الأمم المتحدة والبلدان الغربية التي ألقت بثقلها ذات مرة وراء صنع السلام – ولا سيما الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بقيادة فرنسا وألمانيا، وكذلك المملكة المتحدة والولايات المتحدة. أشار مسؤول سابق في الأمم المتحدة عمل لعقود في عمليات السلام الدولية إلى أن الحواجز العديدة أمام الوساطة تجعل من “المستحيل تقريباً” إنهاء النزاعات الحديثة. من الناحية العملية، كثيراً ما يعمل تدخل الأمم المتحدة اليوم على تهدئة النزاعات، أو في أفضل السيناريوهات، بدء عملية سياسية هشة لا يتوقع سوى البعض نجاحها. في السر، يجادل عديد من الوسطاء المخضرمين ومسؤولي السياسات بأن طموحات عديد من جهود الوساطة الدولية تقتصر ضمنياً على عقد اتفاقات ثنائية مصممة لتحقيق انفراج قريب الأجل أو أهداف محدودة، مثل اتفاق عام 2022 الذي سمح للحبوب الأوكرانية بالمرور عبر البحر الأسود. وبعد تهميش وسطاء الأمم المتحدة أثناء المفاوضات، وقلة اتفاقات السلام الواسعة والعمليات الانتقالية السياسية التي يمكن أن يؤدوا فيها دوراً مهماً، فقدوا كثيراً من مبرر وجودهم. ولا يمكن لمعظم أدوات بناء السلام الأخرى – بما في ذلك الحوار السياسي الشامل، والمساءلة، والعدالة الانتقالية، وإصلاح قطاع الأمن – أن تنجح من دون عمليات سياسية لترسيخها.
وفي أماكن أخرى، تحولت تطلعات عديد من الدبلوماسيين الغربيين بهدوء إلى السعي إلى دعم الاحتواء أو خفض التصعيد، وتجنب البحث عن حل سلمي ومستدام للنزاعات. وتسلط الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة لوصف “الاتفاقات الإبراهيمية” (تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل) بأنها “عملية سلام” الضوء على هذا التغيير، ذلك أن الاتفاقات لا تعالج عملياً عوامل النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، كما أصبح واضحاً في شكل كارثي في الحرب الدائرة بين إسرائيل و”حماس”.
ويشهد ما يسمى بالنزاع المجمد في سوريا تصاعداً مقلقاً لكن متوقعاً في العنف وعدم الاستقرار بسبب عدم إحراز تقدم في المفاوضات. على أحد المسارات، توقفت المفاوضات بين لجنة الاتصال العربية، المؤلفة من الأردن والسعودية والعراق ومصر وجامعة الدول العربية، وبين الحكومة السورية. وفي الوقت نفسه تعتبر عملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة في سوريا منفصلة عن عوامل النزاع. هي تسعى إلى تحقيق أهداف محدودة، بما في ذلك دستور جديد تصيغه لجنة لم تجتمع منذ 18 شهراً، وتسعى عملية لم تبدأ بعد، بقيادة الأمم المتحدة، إلى بناء الثقة المتبادلة بين سوريا ولجنة الاتصال العربية وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. وهذه العملية منفصلة إلى حد كبير عن التطورات السياسية والعسكرية الحالية، بما في ذلك الارتفاع الأخير في العنف في أنحاء البلاد كلها.
عنف لا يمكن احتواؤه
حتى وقت قريب، بدا أن بعض المسؤولين الدوليين يعتقدون أن إنهاء القتال هدف جيد بما فيه الكفاية. أواخر سبتمبر، زعم مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان، الذي يروج لحسن نوايا السياسة الخارجية الخاصة بإدارة بايدن، أن الشرق الأوسط “أكثر هدوءاً اليوم مما كان عليه قبل عقدين”، لكن هجمات “حماس” الوحشية في إسرائيل بعد أسبوع من تعليقاته ورد إسرائيل العسكري المستمر في غزة، فضلاً عن تصاعد العنف في أنحاء سوريا كلها، تظهر قصور هذه السياسة.
ولا يحل الاحتواء النزاعات بل يتطلب إدارة فاعلة. وهذا يعني بذل جهود استباقية لمعالجة الشكاوى، وقمع العنف، ودفع المفاوضات، واتخاذ إجراءات للتعامل مع عدم الاستقرار المتزايد أو الأحداث غير المتوقعة. وفي حين أن الحد من العنف هو هدف أولي معقول، بمجرد تهدئة النزاعات، كثيراً ما يتحول الاهتمام إلى مكان آخر. ومن السهل إذاً تفويت علامات التحذير التي تشير إلى أن القتال على وشك أن يستأنف. وهذه مشكلة خاصة عندما تظل جماعات أو أنظمة مسلحة مسيطرة بعد فشل عمليات السلام أو أثناء العمليات الانتقالية السياسية. ومن دون مساءلة هذه الجماعات عن أفعالها السيئة السابقة، هي تشعر بالحرية في تكرار العنف.
لهذا السبب، يبدو أن جنرالات السودان اعتقدوا أنهم لن يخضعوا إلى المساءلة من قبل الأمم المتحدة، أو من قبل داعميهم الدوليين، أو الدول المنخرطة في دعم العملية الانتقالية (بما في ذلك النرويج والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) عندما بدأوا في قتال بعضهم بعضاً في أبريل (نيسان). وأشار نشطاء سودانيون ودبلوماسيون مقيمون في العاصمة عن حق إلى أنهم حذروا مراراً من أن الرجال الذين يحكمون البلاد منذ الانقلاب العسكري عام 2019 كانوا يستعدون للحرب مع بعضهم بعضاً، لكن هذه التحذيرات إما استبعدت أو خففت في العواصم الغربية، بما في ذلك واشنطن، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن النزاع لم يكن قد اندلع بعد ولأن المسؤولين لم يعتبروا السودان أولوية.
لطالما جادلت كل من الأطراف الفاعلة الإقليمية والدبلوماسيين والمحللين الغربيين بأن الوضع الراهن في غزة والضفة الغربية غير مستدام، لكن الاهتمام الدولي كان متركزاً في أماكن أخرى. لقد أدت جهود التطبيع الإقليمية التي قادتها إدارة ترمب إلى بناء علاقات بين إسرائيل وخصوم عرب سابقين بما في ذلك البحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة. حافظت إدارة بايدن على “الاتفاقات الإبراهيمية”، وسعت بنشاط إلى التوصل إلى اتفاق إسرائيلي – سعودي، لكن هذه الجهود فشلت تماماً في معالجة عوامل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. وعلى رغم ذلك، وحتى مع تصاعد الحرب بين إسرائيل و”حماس”، أعلن مسؤولون أميركيون، بمن فيهم وزير الخارجية أنتوني بلينكن، أن واشنطن لا تزال تأمل في مواصلة مفاوضات التطبيع الإسرائيلية – السعودية.
فخ المساعدات
في كثير من الأحيان، أصبحت المساعدات الإنسانية الدواء الشافي لإدارة النزاعات التي لم تحل. لنأخذ سوريا، حيث تضمنت طلبات الأمم المتحدة لتمويل المساعدات عام 2023، بعد 12 سنة من بدء الحرب، 4.81 مليار دولار للبرامج داخل البلاد و5.7 مليار دولار لدعم اللاجئين. وتنفق مبالغ مماثلة في السودان وميانمار، وكلاهما يعاني نزاعات وليس لديهما مبعوثون سياسيون من الأمم المتحدة ولا عملية سلام واضحة. ويتواصل العنف بلا هوادة، ويعيش المدنيون على مساعدات هزيلة – في المناطق حيث يمكن الوصول إليهم. ومع ارتفاع عدد النزاعات، تستمر كلف المساعدات في الازدياد.
لا يمكن للمانحين أن يواكبوا الكلفة المتزايدة للحروب، فقد زاد تمويل المناشدات للحصول على مساعدات بمعدل 10 في المئة على أساس سنوي بين عامي 2012 و2018، لكنه تراجع بعد ذلك. ومع ذلك، استمرت مناشدات الأمم المتحدة للحصول على الأموال في التزايد، إذ تضاعف عددها أربع مرات بين عام 2013 واليوم. ومن بين 406 ملايين شخص في حاجة إلى مساعدات إنسانية عام 2022، عاش 87 في المئة في بلدان في خضم نزاع شديد الحدة، و83 في المئة في أزمات طال أمدها.
في ظل هذه الظروف، لا يمكن أن تكون المساعدات هي الحل الوحيد. تتطلب عودة اللاجئين تحولاً جوهرياً في الديناميكيات المحلية يسمح للفارين من العنف والاضطهاد بالعودة بأمان إلى ديارهم، والوصول إلى ممتلكاتهم، وإعادة الاندماج في المجتمع من دون تمييز. وفي الوقت نفسه تتطلب العدالة والتنمية في مرحلة ما بعد النزاع إدارة من قبل حكومات مناسبة مستعدة للتصدي للانتهاكات المرتكبة أثناء النزاع وتوفير حوكمة ملائمة خالية من التمييز لتيسير بيئة اقتصادية منتجة يكافح فيها الفساد والنشاط غير المشروع. يتطلب البناء بقيادة محلية لسلام يعالج التصدعات الاجتماعية الناجمة عن النزاع مساحة مدنية لإجراء الحوار ومعالجة الشكاوى وتأمين اتخاذ شامل للقرار وحوكمة شاملة.
طوبى لصانعي السلام
يقف العالم عند نقطة انعطاف، ولا يزال ممكناً حشد الدعم لنهج جديد لحل النزاعات. لتحقيق ذلك، تدعو الحاجة إلى قيادة خلاقة وشجاعة من تحالف واسع من السياسيين وقادة الأعمال والأمم المتحدة وبناة السلام والمجتمعات المحلية – تتماشى مع طموح متجدد لصنع السلام. ومن دون التطلع إلى السلام المستدام وإعطاء قيمة له، من السهل جداً قبول أقل النتائج سوءاً ونسيان الخسائر البشرية والموارد الهائلة المترتبة على القيام بذلك.
أولاً وقبل كل شيء، يحتاج أي جهد لتجديد عملية صنع السلام للقرن الـ21 إلى إرادة سياسية من الدول القوية، ولا سيما الولايات المتحدة وغيرها من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وقد أشار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش صراحة إلى هذه النقطة في موجز السياسات الذي نشر أخيراً بعنوان “أجندة جديدة للسلام”، وهو رؤية تضع مسؤولية تأمين السلام ودعم المعايير الدولية في أيدي البلدان الفردية بدلاً من النظام المتعدد الأطراف. وإذا كانت الحكومات التي تقول إنها تؤمن بنظام قائم على القواعد – بما في ذلك تلك الحكومات الموجودة في بروكسل ولندن وواشنطن – على استعداد لدعم القوانين والمعايير الدولية، قد يكون هناك بعض الأمل في المستقبل، لكن إذا لم تكن كذلك، من المؤكد أن السباق الحالي إلى القاع سيستمر.
قد تساعد اللغة الأكثر دقة التي تشير إلى “السلام” هذه الحكومات على إعادة الانخراط في النضال من أجله. إن وصف المفاوضات حول وقف لإطلاق النار بأنها “عملية سلام”، كما لو كان السلام قاب قوسين أو أدنى وليس على بعد سنوات أو عقود، كثيراً مما يؤدي إلى مزاعم مبكرة بتحقيق السلام لمجرد أن المدافع صمتت موقتاً، هذا الاعتقاد الخاطئ يؤدي إلى فك الارتباط مع العملية. إن التأطير الجديد الأكثر دقة الذي يميز بين مراحل إدارة النزاعات وحل النزاعات وبناء السلام، إضافة إلى سرد أكثر صدقاً لآفاق التقدم في المرحلة التالية، من شأنه أن يؤدي إلى سرد أكثر صدقاً لما هو ممكن وعملي – أو مقبول أخلاقياً. وعلى وجه الخصوص، من شأن هذا النهج الجديد في التعامل مع اللغة أن يساعد في وضع توقعات واقعية لما يمكن تحقيقه في الأجل القريب والمتوسط والبعيد. ومن شأنه أيضاً أن يحول دون الاندفاع المألوف جداً لإعلان النجاح الذي يحبط استمرار عديد من عمليات السلام.
الأهم من ذلك، ثمة حاجة إلى نهج جديد للوساطة. لقد وسعت عمليات بناء السلام وممارساته الرسمية وأضفي الطابع المهني عليها خلال فترة ما بعد الحرب الباردة، وهي تفترض أو تتطلب ديناميكيات – بما في ذلك التعاون الجيوسياسي والتسويات السلمية الناجحة وعمليات انتقالية سياسية – لم تعد موجودة. يعرف عالم اليوم من خلال المنافسة الجيوسياسية ويتطلب شيئاً مختلفاً تماماً. واستجابة لهذه التحديات، يجب أن يصبح الوسطاء أكثر إبداعاً وتعاوناً. ويجب أن يصبحوا مدافعين عن قضيتهم الخاصة، فيدافعوا علناً عن السلام، ويجب أن يضمنوا الدعم الدبلوماسي وأن ينخرطوا مع مجموعة واسعة من الجماعات، بما في ذلك المجتمع المدني. وعلى وجه الخصوص، يجب على الوسطاء أن يعملوا في شكل وثيق مع بناة السلام المحليين وأن يمكنوهم، وأن يستوعبوا المعرفة المحلية ويشركوا الأطراف الفاعلة الرئيسة في عمليات السلام، التي يجب ألا تسعى بعد الآن إلى إدامة ديناميكيات السلطة الراهنة. يجب على الوسطاء أيضاً العمل في شكل وثيق مع الكتل الإقليمية – وفي بعض الأحيان تقديم الدعم لها – وأداء دور أكبر في دعم المفاوضات الثنائية، وتمكين الأطراف المتنازعة من إنشاء سلام مستدام بمجرد إسكات البنادق.
في الوقت نفسه سيحتاج أولئك الذين يسعون إلى صنع السلام إلى إشراك الأطراف الفاعلة غير التقليدية – القوى العالمية المتوسطة، والمنظمات الإنسانية، والأطراف الفاعلة من القطاع الخاص. وينبغي لهذه الشراكات أن تسخر إمكانات أجندة الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات لاقتطاع دور للقطاع الخاص في دعم السلام، وصياغة نماذج جديدة للتعاون الجيوسياسي، واستخدام المساعدات لدعم السلام بدلاً من أن تكون بديلاً عنه. هذه متطلبات كبيرة، لكنها أيضاً المتطلبات الأساسية لبناء سلام مستدام، ووقف انتشار النزاعات، وتهدف إلى ما هو أكثر من مجرد إخماد العنف موقتاً.
إيما بيلز زميلة غير مقيمة في معهد الشرق الأوسط ومستشارة أولى في المعهد الأوروبي للسلام.
بيتر سالزبوري أستاذ مساعد في كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا.
مترجم عن “فورين أفيرز” 30 أكتوبر 2023