«إسرائيل» دمّرت ولم تحجب هزيمتها… والبحث عن المخارج؟
} العميد د. أمين محمد حطيط*-البناء
جهدت “إسرائيل” وعلى مدى ستّة أسابيع من العمل في الميدان لاحتواء الزلزال الذي ضربها في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وأطلقت لجنونها العنان، وبدا أنّ الهستيريا تحكمت بها، ولا تزال موجاتها هي المسيطرة على المشهد الإسرائيلي العام. تجلى ذلك في المواقف السياسية التي أطلقت والأداء العسكري الذي ظهر والأهداف الاستراتيجية التي اعتمدت، وزعمت “إسرائيل” أنها بصدد تحقيقها وهي أهداف في حقيقتها أقرب الى الجرائم منها الى الإنجاز العسكري ويكفي أن يكون في طليعتها تهجير مليوني فلسطيني من قطاع غزة الى سيناء لتعالج آثار نكبة 1948 بنكبة 2023.
لقد استغلت “إسرائيل” الدعم لا بل الاشتراك الغربي الفعلي معها بقيادة أميركية، اشتراكهم في “الحرب التدميرية” ضدّ قطاع غزة، وتشجيعهم لها على فعل أيّ شيء أياً كانت طبيعته الإجرامية من أجل استعادة هيبتها وترميم قوّتها الردعية التي تحطمت يوم 7 أكتوبر، فرفضت أميركا أيّ بحث في وقف إطلاق النار وعطلت أكثر من مشروع في مجلس الأمن يرمي الى ذلك، وفتحت المجال أمام “إسرائيل” لارتكاب جرائم حرب في غزة بشكل غير مسبوق في التاريخ حيث إنها حوّلت كامل القطاع وبكامل مساحته الـ 365 كلم2 الى بقعة تقتيلkilling zone تحاصر فيها أكثر من مليوني نسمة تمنع عنهم أيّ مادة من مستلزمات الحياة الماء والدواء والغذاء وطبعاً المأوى الذي دمّر، ولو كان الهواء بيد “إسرائيل” لحبسته أيضاً عن القطاع، مرتكبة بذلك جريمة الإبادة الجماعية وجرائم ضدّ الإنسانية.
لقد استفادت “إسرائيل” من صمت عربي لا بل من تأييد بعض حكام العرب وانطلقت في تنفيذ عملية الانتقام التدميرية الوحشية وتكفّلت أميركا بتحييد الجبهات الأخرى عن الصراع لتتفرّغ “إسرائيل” لقطاع غزة وتنفّذ فيه ما تشاء حتى ولو كان فعلها يؤدّي الي إبادة جماعية شاملة للسكان عبر التهجير أو القتل، وكانت أميركا و”إسرائيل” مطمئنتين الى انّ الأمتين العربية والإسلامية لن تتخذا ولن تتجرآ على اتخاذ أي موقف جدي فعلي مؤثر من شأنه الحؤول دون تنفيذ خطة التدمير الشامل تلك (وهذا ما تأكد في القمة العربية الإسلامية التي عقدت الأسبوع الماضي)، كما أنهما تظاهرتا بأنّ الوقت مفتوح أمامهما لفعل ذلك دون أيّ مانع او قلق.
وحده محور المقاومة بشكل عام وحزب الله وإيران بشكل خاص، كان يشكل قلقاً أميركياً في حال دخوله في المواجهة، لأنّ تدخله سيكون من شأنه توسيع الحرب وامتدادها الى الإقليم كله ثم تحوّلها في جانب من الجوانب الى فوضى غير مسيطر عليها تختلف في مفاعيلها عن “الفوضى الخلاقة” التي أطلقتها أميركا منذ العام 2006 لإقامة شرق أوسط جديد بهوية أميركية، بيد انّ الفوضى/ الحرب المخشي منها أميركياً الآن هي الحرب على المصالح والوجود والنفوذ الأميركي، ولذلك حشدت أميركا القوى السياسية والدبلوماسية والعسكرية في البر والبحر لممارسة الضغوط لمنعها، لأنّ نتائجها غير مضمونة بالنسبة لها، ما جعل المواجهة الميدانية الآن قيد تجاذب بين اتجاهين:
ـ الاتجاه الإسرائيلي الغربي بقيادة أميركية ويرمي الى تغيير واقع قطاع غزة لجهة نزع سلاحه وإقامة حكم جديد لا يكون لحركة حماس دور فيه، وهو يرفض وقف إطلاق النار حتى يتحقق ذلك ويتصرّف على أساس أنه قادر على فرضه في الميدان عسكرياً وإنسانياً عبر الحصار والخنق الاجتماعي وتحويل القطاع الى أرض غير قابلة للعيش، ويرى أنّ لديه الوسائل والمهلة لتحقيق ذلك ويوحي بأنها مهلة مفتوحة لن يستطيع الطرف الفلسطيني احتمال الأعباء خلالها وأنه سيضطر للاستسلام في نهاية المطاف لأنه لن يقوى لا الشعب ولا المقاومة على الصمود، فيها كما يتصوّر أصحاب هذا الاتجاه.
ـ الاتجاه المقاوم والأساس فيه المقاومة في قطاع غزة الذي تقوده حركة حماس وينطلق من رصيد النصر العظيم الذي تحقق له في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي ويرفض مطالب العدو ويدعو الى وقف العدوان ووقف إطلاق النار ويتصرف على أساس قدرته على الصمود الدفاعيّ عسكرياً ورفض التهجير من القطاع ويرى انّ “إسرائيل” لن يكون بمقدورها الدخول في حرب مفتوحة زمنياً، وأنّ محور المقاومة لن يترك العدو يستفرد به.
وبالفعل فإنّ محور المقاومة وبكلّ مكوناته اتخذ من المواقف التي تمكنه منها جغرافيته السياسية وبما لديه من قدرات متاحة من شأنها أن تخيّب الظنّ الأميركي/ الإسرائيلي كما أنه يدرك انّ زعم “إسرائيل” بقدرتها على الحرب المفتوحة هو زعم في غير محله مع علم هذا المحور انّ السقف الذي اعتمدته “إسرائيل” في عقيدتها القتالية المطوّرة بعد 2006 هو 10 أسابيع مضى منها حتى الآن أكثر من النصف. وبقيت أربعة أسابيع و 3 أيام ويُضاف الى ذلك ضغوط ستواجه الاتجاه الأول أهمّها ملف الأسرى لدى المقاومة وملف الواقع الإنساني للقطاع وملف انقلاب الرأي العام العالمي ضدّ أميركا و”إسرائيل”، كما ظهر مؤخراً في التظاهرات التي عمّت دول العالم وانعكس في التصويت الأخير في الجمعية العمومية للأمم المتحدة حيث لم يصوّت لصالح أميركا و”إسرائيل” أكثر من 7 دول معظمها هامشية صغيرة في مقابل أكثر من 163 لصالح فلسطين والدعوة لوقف إطلاق النار. كما وإرهاصات تشكل الجماعات الحقوقية من المحامين الدوليين لملاحقة “إسرائيل” بجرائم الحرب.
أما في الميدان الذي ترك له السيد حسن نصرالله النطق عن نفسه، فإننا نجد بشكل خاص جبهة جنوب لبنان/ شمال فلسطين المحتلة حيث لم تعبأ بضغوط أميركا وتهديداتها وباتت في السقف الذي وصلت اليه تؤرق أميركا ومعها “إسرائيل”، التي ألزمت بتكبّد خسائر تفوق كلّ متوقع حتى أنها تحوّلت الى جبهة رئيسية حقيقية تتخطى دورها كجبهة مساندة فتحت لتخفيف الضغط عن جبهة غزة، هذا الارتقاء في هذه الجبهة فرض على “إسرائيل” إعادة النظر بانتشار قواتها العملانية المنفتحة أو المشتبكة أو الموضوعة في الاحتياط، كما فرض عليها استمرار إخلاء مزيد من مستوطنات الشمال والتراجع عن إعادة سكان 14 مستوطنة إليها، تُضاف الى كلّ ذلك المفاعيل العملانية كما والرمزية التي أحدثتها مُسيرّات وصواريخ انطلقت من اليمن او العراق او سورية واستهدفت “إسرائيل” او القواعد الأميركية.
على ضوء ما تقدّم وفي ظلّ عجز “إسرائيل” عن تحقيق إنجاز عسكري رئيسي يعوّل عليه، وفي ظلّ عدم قدرة أميركا على الاستمرار في تجاهل الحقائق والوقائع الميدانية والمواقف الدولية، فإننا نرى أنّ ما تطالب به “إسرائيل” او تسعى اليه أميركا هي أهداف غير ممكنة التحقق في ظلّ ما هو قائم على المسرح العملاني والدولي، وبعد السقوط المؤكد لمطلب تهجير سكان القطاع وسقوط السعي الى تحرير الأسرى بالقوة، فإنّ مسألة وضع القطاع وحكمه او واقع السلطة فيه لن تكون كما تريد أميركا و”إسرائيل”، لأنّ القبول بطلبهما مستحيل وفرض إرادتهما بالقوة أّكثر استحالة، وعليه… وفي ظلّ هذه الحقيقة يبقى البحث عن المخارج فكيف ستكون؟
في البدء نؤكد على استبعادنا انفجار الوضع في كامل المنطقة او توسّع الحرب لتشمل قوى وجغرافيا إضافية، وسبب هذا الاستبعاد عائد الى عدم مصلحة أميركا في مثل هذه الحرب وخشيتها من مفاعيلها الآنية والمستقبلية على مصالحها التي لن تكون مضمونة فيها من جهة، وعدم رغبة محور المقاومة بمثل هذه الحرب التي يدرك أنّ اوانها لم يحن بعد لأنّ إمكانية النصر بالضربة القاضية لم تتحقق بعد، على حدّ قول السيد حسن نصرالله، ما يضطر المحور الى الاستمرار بالعمل باستراتيجية الكسب بالنقاط وقد تكون الحرب الشاملة هذه مصلحة لنتنياهو وحده الذي بها يطيل أيامه في السلطة ويبعد عن نفسه المحاسبة والسجن.
ومع هذا الاستبعاد للحرب الشاملة وعدم قدرة “إسرائيل” على حرب استنزاف طويلة ومن غير أفق فإننا نرى أنّ التوجه لإيجاد المخارج سيكون من باب إنساني متصل بواقع سكان القطاع من جهة ومن باب الأسرى من جهة أخرى، وسيكون البدء عبر هدنة او وقف أعمال قتالية او وقف إطلاق نار مؤقت يعتمد ثم يمدّد ويتكرّر تحت عنوان إنساني، سلوك نعتقد أنه سيواكب بمناورات سياسية تقودها أميركا لتحقق لـ “إسرائيل” عبرها بعض ما عجزت عن تحقيقه في الميدان، فهل ستسمح المقاومة الفلسطينية مدعومة ومسندة بمحور المقاومة بذلك…؟
*أستاذ جامعي ـ خبير استراتيجي