واشنطن في مواجهة الطوفان… تخبط وانهيار!
} بتول قصير-البناء
يجد بايدن نفسه الآن مدفوعاً إلى أزمة من المرجح أن تعيد تشكيل سياسته في الشرق الأوسط، وفي تحالف قد لا يشعر فيه بالارتياح مع رئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني المتطرف بنيامين نتنياهو.
تفرض أميركا هيمنتها على العالم باسم الامبريالية عبر الرأسمالية اقتصادياً، والنيوليبرالية سياسياً، والحروب عسكرياً. والدول القوية تتجنّب الوقوع تحت قبضتها العتيدة، أما سائر الدول فتعمل مجبرة على التأقلم معها، لتخفف من وطأتها عليها، وتستفيد من معطياتها بقدر الإمكان. ولأنّ القضية الفلسطينية مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالوضع العالمي للإمبريالية الأميركية، فذلك يعني أنّ طوفان الأقصى أدخل السياسة الأميركية في مأزق كبير.
وعليه، لم تدع واشنطن مجالا لأحد للتكهّن بشأن ما الذي تدافع عنه، فدعم «إسرائيل» المطلق الثابت كالصخر كما قال بايدن ليس إلا جزءاً مما وصفته الإدارة حرفياً، «سنفعل كلّ شيء للدفاع عن مصالح أميركا في المنطقة والعالم».
فقد حركت أميركا قواتها العسكرية التي حشدتها في البحر المتوسط، وعملت على تدمير غزة، لأنها تعرف أنّ الحرب ليست ضدّ غزة وحدها، بل هي رسالة للعالم بأنها ما زالت شرطيّه. فالنظام العالمي الجديد، الذي أقرّته أميركا عملياً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بداية التسعينات، من استراتيجية وجوده استمرار الحرب في العالم. والمتابع للسياسة الأميركية عن كثب يلاحظ أنّ الأخيرة تترك الأحداث الدولية تتفاعل مع بعضها، وتقوم هي بتوجيه بوصلتها لصالحها، بطريقة مباشرة او غير مباشرة.
هذه المظاهرة العسكرية الأميركية الخطيرة التي صاحبت طوفان الأقصى، طرحت تساؤلات عدة حول الهدف الذي يخفيه تعزيز التواجد العسكري الأميركي في الشرق الأوسط؟ وعن ما إذا كانت «إسرائيل» قد بلغت حقيقةً مرحلة الخطر الوجودي الذي يستدعي تحريك أساطيل وطائرات أميركا لحمايتها؟ وهل هي مجرد رسائل تحذيرية أم أنّ الأمر يتعدّى ذلك؟
من البديهي القول إنّ واشنطن بتدخلها العسكري الراهن تفصح عن فهمها العميق لما يمثله هجوم طوفان الأقصى من تهديد خطير لمصالحها العليا وهيمنتها على العالم. فالمواجهة الجديدة التي تخوضها «إسرائيل» ضدّ حركة حماس في قطاع غزة، قدمت فرصة، على طبق من ذهب، لإدارة بايدن لتحقيق مكاسب ستحسب لصالح معركة الرئاسة القادمة في 2024. وبايدن المأزوم، يبحث عن مادة دسمة ليستعرض بها نجاح إدارته وسط العديد من الإخفاقات المتتالية، ويكون ذلك عبر نجاح حليفه الاستراتيجي الأكبر في الشرق الأوسط، ما ينعكس تلقائياً على حظوظه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وعليه، فإنّ الدعم الكامل لـ «إسرائيل» في حربها على حركة حماس سيستقطب دعم اللوبي اليهودي داخل الولايات المتحدة الأميركية.
ومن المنظور الأميركي، فإنّ انتصار حماس في معركة «طوفان الأقصى»، علامة على أنه نصر إقليمي للمحور الإيراني في المنطقة (إيران والفصائل الداعمة لها في كلّ من العراق، ولبنان واليمن) وعليه، يعدّ نصراً دولياً لمحور الصين وروسيا. وعلى المقلب الآخر يعتبر خسارة فادحة لأميركا والغرب و«إسرائيل» ودول اتفاقات إبراهام والسلطة الفلسطينية والدول المعتدلة.
وعطفاً على ما سبق فإنّ هذه التدعيمات العسكرية الأميركية في البحر المتوسط توحي بأنّ الولايات المتحدة الأميركية في طريقها إلى الانخراط في الحرب فعلاً إلى جانب حليفتها الاستراتيجية. ولكن اذا أمعنا النظر في حيثيات هذه التحركات، بالاضافة للظروف الداخلية الأميركية والإقليمية والدولية المتداخلة والمعقدة تشي بعكس ذلك.
فحسابات الولايات المتحدة المتفرّعة على اكثر من مستوى تحول دون انخراطها بشكل مباشر في معركة طوفان الاقصى، لتفادي هذه المواجهة في منطقة الشرق الأوسط. خصوصاً أنّ واشنطن عادت لتتراجع عن اتهام إيران بأنها هي من منحت الضوء الأخضر للعملية العسكرية من خلال اجتماع عُقد بين قادة في الحرس الثوري وحركة حماس في بيروت، وأنّ التخطيط للعملية بدأ منذ نحو شهرين. ويعود سبب التراجع هذا لاستحقاقات قد لا تبدو الإدارة الأميركية مستعدة لها في الوقت الحالي. إذ أنّ ذلك قد يستنفر محور المقاومة او الحليف لإيران كما تسمّيه واشنطن في المنطقة لإعادة استهداف مصالحها المتمثلة بالقواعد العسكرية الأميركية. وهذا ما لمسته إدارة بايدن خلال الأيام القليلة التي تلت معركة الطوفان وتحديداً بعد مجازر الإبادة الجماعية التي أقدمت عليها «إسرائيل» في غزة، فاليمن والعراق كانا حريصين على الانخراط في رسائل التحذير المتبادلة بين إيران وحلفائها من جهة، والولايات المتحدة الأميركية و«إسرائيل» من جهة اخرى.
أضف الى ذلك، فإن أميركا مهتمة بمسألة الحؤول دون انخراط حزب الله على الجبهة الشمالية، ملوّحة بقدرتها على إبادة الجنوب اللبناني حتى الضاحية معقل حزب الله إبادة تامة إذا ما أشعل الحزب الجبهة التي تخشاها تل أبيب ومن ورائها واشنطن، غير أنها وبتعمّدها هذا التهديد للحزب، إنما تلمح لإيران، على أنّ واشنطن قد تعطي الضوء الأخضر لـ «إسرائيل» لتوجيه ضربة على القدرات العسكرية النووية الإيرانية.
فضلاً عن ذلك، فإنّ الحرب الحالية قد توفر فرصة لقوى دولية مناوئة للولايات المتحدة الأميركية، ففي حين تعبّر واشنطن صراحة عن دعمها الكامل لـ «إسرائيل»، وجهت روسيا رسائل تفيد بأنها ليست بعيدة عن الحسابات الإقليمية والدولية لما يجري في غزة.
في المحصلة، لقد أوقع طوفان الأقصى أميركا في أزمة حقيقية، لأنّ هذه السياسة المنحازة والمتهوّرة التي اتخذتها الولايات المتحدة في سعيها للحفاظ على مصالحها، ولاستعادة قوة الردع العسكري للجيش الإسرائيلي الذي أُهين علنًا أمام مستوطنيه ووأمام العالم، ستكون لها نتائج كارثيّة، هيبتها وصورتها المنهارة أمام شعوب المنطقة، وايضاً على مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية.