حماسة غربية للهدنة: حان وقت السياسة
انقسامات إسرائيلية
في محاولتها الوقوف على أبرز الدوافع التي أَقنعت حكومة بنيامين نتنياهو بالمضيّ في مقترح «الهدنة الإنسانية» في غزة، رأت صحيفة «نيويورك تايمز» أن تلك الموافقة جاءت «تتويجاً لنزاع دام نحوَ أسبوع كامل بين القادة المدنيين والعسكريين الإسرائيليين، تمحور حول ما إذا كانت مثل هذه الصفقة ستعزّز قوة حركة حماس، وتعرّض الرهائن المتبقّين لديها للخطر». وتابعت الصحيفة الأميركية، نقلاً عن مسؤولين أمنيين إسرائيليين، قولهم، إن فريقاً يقوده وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، «سعى إلى تأخير وقف إطلاق النار (المؤقت)، بداعي الخوف من أن يؤدي ذلك إلى إبطاء زخم الاجتياح الإسرائيلي (لغزة)، ويسمح لحماس بإعادة تجميع صفوفها، فضلاً عن صرف الانتباه الدولي عن الأسرى الـ190 المتبقّين في غزة»، في حين أن فريقاً آخر، بقيادة رئيس «الموساد»، ديفيد بارنياع، الذي لعب دوراً قيادياً في إدارة المفاوضات الجارية حول ملفّ الأسرى، «جادل بأن التوصّل إلى الصفقة أفضل من عدمه، ولا سيما أنه يمكن مواصلة عملية الاجتياح فور انتهاء سريان وقف إطلاق النار المقرّر لمدّة قصيرة».
وأسهبت الصحيفة في تسليط الضوء على التطوّرات الدراماتيكية التي صاحبت تلك التجاذبات، موضحةً أنّ «الفريق الأول كانت له اليد العليا في بداية الأمر، حين أقنع نتنياهو بتأجيل التصويت في مجلس الوزراء والذي كان من المقرّر إجراؤه يوم 14 الجاري، على أمل أن يؤدي المزيد من الضغط العسكري إلى منح إسرائيل هامشاً أكبر من التأثير، وقدْراً أكبر من النفوذ، على طاولة المفاوضات، بما يسمح بإطلاق سراح المزيد من الرهائن (الإسرائيليين)». وأضافت الصحيفة، نقلاً عن مسؤول عسكري إسرائيلي، أن «الفريق الثاني، تمكّن من الفوز، وتغليب وجهة نظره في نهاية المطاف، ما دفع نتنياهو إلى إجراء التصويت في وقت مبكر من يوم الأربعاء الفائت، وإفساح المجال أمام الموافقة على الهدنة»، متابعةً أنّ الفريق الأول، عاد وبدّل مواقفه بزعم أن «الشروط التي تمكّنت إسرائيل من انتزاعها في صفقة (الهدنة) الحالية، جاءت أفضل بكثير من تلك التي عُرضت عليها قبل أسبوع». ونقلت الصحيفة، عن مصدر مقرّب من غالانت، قوله إن تغيير الأخير وعناصر الفريق الداعم له، وفي طليعتهم وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، مواقفهم، يرجع إلى «اعتقادهم بأن قرار الاستيلاء على مساحة أكبر من مدينة غزة، بما في ذلك السيطرة على مستشفى الشفاء، أضعف حماس بشكل أكبر، وسمح لإسرائيل بجمع المزيد من المعلومات الاستخبارية حول الرهائن المفقودين، وهو أمر وفّر للأخيرة موقفاً تفاوضيّاً أقوى، ومكّنها من انتزاع اتفاق (هدنة) بشروط أفضل».
أيضاً، توقّفت الصحيفة عند الضغوط المتزايدة في الشارع الإسرائيلي على حكومة نتنياهو، والتي تجلّت في مسيرة نظّمها آلاف المتظاهرين سيراً على الأقدام من تل أبيب إلى القدس، للضغط من أجل استرجاع الأسرى، وذلك بوصفها أحد دوافع الحكومة للموافقة على «الهدنة». واعتبرت أن هذه الموافقة إنّما «تعكس حالة التوتّر القائمة داخل القيادة الإسرائيلية»، بالنظر إلى تعهدات سابقة لقادة الاحتلال بهزيمة «حماس»، واستعادة الأسرى المحتجزين لديها، ولا سيما أنهما هدفان متناقضان، من ناحية، و»الجدل الأوسع نطاقاً الذي بات يسود المجتمع الإسرائيلي حول الأولويات المباشرة للجيش في ردّه على هجمات السابع من تشرين الأول»، من ناحية ثانية، وذلك في ضوء تحوّل البحث في «كيفيّة استعادة قدرة إسرائيل على حماية مواطنيها، إلى صلب النقاش العام» في كيان الاحتلال، إذ يؤيّد بعض الإسرائيليين مواصلة العمل العسكري لهزيمة «حماس»، وإنْ على حساب الهدف المتعلّق باستعادة الأسرى، كطريق لاستعادة تلك «القدرة»، فيما يولي آخرون استعادة هؤلاء، الأولوية، حتى وإنْ تطلّب الأمر إبطاء وتيرة الهجوم، للغاية نفسها.
هل تمهّد الهدنة لوقف إطلاق النار؟
تتفاوت النظرة إلى تقييم «اتفاق الهدنة»، وتبعاته السياسية والعسكرية، وخصوصاً لناحية فرص تحوُّله إلى «وفق دائم لإطلاق النار»، أو توظيفه في استئناف «عملية السلام» بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ومن منظور بعض المحلّلين العسكريين، فإنّ ما شمله الاتفاق المذكور، من بنود حظرت تحليق الطائرات الإسرائيلية فوق جنوب قطاع غزة طيلة مدّة الهدنة، وتعليق طلعاتها الجوية فوق مناطق شمال القطاع لمدة ستّ ساعات يومياً، يصبّ في مصلحة حركة «حماس»، كونه يسمح لمقاتلي الحركة بالتحرّك شمالاً وجنوباً، من دون أن يكونوا عرضة للانكشاف من قِبَل سلاح الجو الإسرائيلي. وتنطلق صحيفة «نيويورك تايمز» من استنتاج المحلّل السياسي الفلسطيني، فؤاد خفاش، الذي رأى أن الاتفاق برهن على أن للحركة «اليد الطولى» في صراعها مع الاحتلال، معتبراً أن «إسرائيل وافقت، من الناحية الفعلية، على شروط حماس»، للإشارة إلى أن بعض المسؤولين العسكريين الإسرائيليين قد يؤيّدون، وإنْ جزئياً، ما ذهب إليه خفاش. وتنقل الصحيفة عن الخبير العسكري، والمحاضر في «الجامعة الإسرائيلية المفتوحة» ياغيل ليفي، قوله إن «إسرائيل حرّكت يدها بالموافقة على الهدنة، مكرهةً، وذلك بسبب حركة احتجاجية متنامية قادها ذوو الرهائن، ما حدا بنتنياهو إلى بذل المزيد من الجهد لإنقاذ أقارب هؤلاء المحتجين». كما تنقل عنه أنّ رئيس الحكومة ربّما أدرك أن «إهمال قضية الرهائن سيؤدي إلى توسيع دائرة الاحتجاجات المناهضة لحكومته». ومن جهته، رأى الرئيس السابق لـ»الشين بيت»، ياكوف بيري، أنه «يتوجّب على إسرائيل القبول باتفاق الهدنة، ذلك أنّ كل رهينة تريد حماس إعادتها، لا يمكننا أن نرفضها، الأمر الذي أعطى (الحركة) ورقة رابحة في المفاوضات». وحذّر بيري من إمكانية وقوع ما سمّاه «حوادث مؤسفة» خلال تطبيق الاتفاق، مبيّناً أن «أيّ حادث بسيط يمكن أن يوقع اتفاق وقف إطلاق النار في دائرة الخطر»، في إشارة إلى تطوّرات ميدانية قد تطيح «الهدنة». وشكّك بيري في إمكانية استمرار الحرب الإسرائيلية ضدّ «حماس» بعد انقضاء مدّة سريان تلك الهدنة، قائلاً: «عندما توقف الحرب، فمن الصعوبة في مكان، استعادة الزخم لمواصلتها».في المقابل، اعتبر سفير الولايات المتحدة السابق لدى إسرائيل، مارتن أنديك، أن الرئيس الأميركي، جو بايدن، «لا يزال يعارض وقف إطلاق النار، كما سبق أن صرّح في أكثر من مناسبة، على اعتبار أنه سيكون بمثابة انتصار لحماس»، مشدّداً على أن «الديناميكية التي جرى اعتمادها في هذه الحالة، من قِبَل الأفرقاء المعنيّين، تبدو مثيرة للاهتمام»، ذلك أنّ «صيغة الهدنة تتمثّل في أنه إذا ما أرادت حماس الاستمرار في تجنّب المزيد من العمل العسكري الإسرائيلي، فسيتعيّن عليها أن تدفع ثمن ذلك من خلال إطلاق سراح المزيد من الرهائن، ولكن في مقابل حصولها على المزيد من السجناء الفلسطينيين». ولمّح إلى أن موافقة الأطراف المعنيّين على تلك الصيغة «لا تعني أنهم يتوقّعون أن تتحوّل الهدنة إلى وقف لإطلاق النار» لأسابيع أو أكثر. وفي الاتجاه نفسه، أشار مسؤول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي الأميركي، بريت ماكغورك، الذي كان قد أجرى جولة شرق أوسطية، ولعب دوراً بارزاً في ملفّ المفاوضات غير المباشرة بين حركة «حماس» وإسرائيل، إلى إمكانية تمديد «الهدنة»، موضحاً أنه «يمكن القيام بالمزيد من خلال إتاحة المزيد من الوقت». وتابع أن «مسؤولية إتاحة المزيد من الوقت إنّما تقع في الوقت الراهن على عاتق حركة حماس»، معقّباً: «في حال أفرجت (حماس) عن المزيد من الأسرى، وهو ما سبق أن أعطوا مؤشرات لقطر، ولـ(الوسطاء) المصريين في شأن استعدادهم للقيام به، فإن العمل بالهدنة في هذه الحالة سيستمرّ».
«عملية السلام»
في محاولتها استشراف آفاق اتفاق «الهدنة المؤقتة» في غزة، وارتداداته المحتملة على استئناف «المسار السياسي» بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كشفت صحيفة «واشنطن بوست» عن ضغوط تمارسها الإدارة الأميركية على حكومة بنيامين نتنياهو، مشيرة إلى أن «الأميركيين يأملون أن يفضي الاتفاق إلى تغيير دينامية الحرب، وربّما إلى وقف إطلاق النار على نطاق أوسع». وأضافت الصحيفة الأميركية أن «إسرائيل رفضت، لأسابيع خلت، إبطاء وتيرة هجومها العسكري في غزة، على الرغم من مناشدات حلفائها وذوي الأسرى، والوكالات الإنسانية العاملة في القطاع». وعلى رغم تأكيدهم حجم الضغوط التي مارستها واشنطن على حكومة نتنياهو للقبول بـ»الهدنة»، توقّع محلّلون غربيون أن يتمسّك الأخير بمواصلة العملية العسكرية في غزة، من دون وجود مؤشرات إلى رغبة لدى واشنطن في تقليص دعمها لتل أبيب. ومع ذلك، ثمّة من يتوقّف عند المحادثات التي أجراها بايدن أخيراً مع أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، وتباحثهما في شأن «شروط إقامة دولة فلسطينية»، للدلالة على وجود توجّه أميركي جادّ لإعادة الزخم إلى مشروع «حلّ الدولتين». وفي معرض تدليله على وجود «مصلحة» لواشنطن خلف هذا التوجّه، لفت مدير مركز البحوث في «المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية»، روي كيبريك، إلى أنّ وقف إطلاق النار المؤقت في غزة «يوفّر فرصة للمجتمع الدولي، من أجل تعزيز السلام المستقرّ والمستدام في إسرائيل والأراضي الفلسطينية»، مؤكداً أنه «في ظلّ غياب الإرادة أو القدرة لدى الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية على حدّ سواء، لإحداث تغيير ملموس، فإن المجتمع الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، قادر على الدفع نحو حلّ للصراع». واقترح كيبريك «ثلاث خطوات رئيسيّة» على هذا الصعيد: أولاها، أنه «يتعيّن على واشنطن أن تحدّد الهدف النهائي، والذي ينبغي أن يتمثّل في الالتزام بتنفيذ حل الدولتين وتبنّي مبادرة السلام العربية، في موازاة تحديد الجدول الزمني لتحقيقه»، وذلك عبر خيارَين، إمّا عبر قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي، على أن تقترحه الإمارات العربية المتحدة داخل المجلس، بهدف «تجاوز التوتّر بين موسكو وواشنطن»، في إشارة إلى تمتّع الأولى بعلاقات وثيقة مع كلّ من الأخيرتَين، بما يكفل عدم استعمال أيّ منهما حقّ النقض (الفيتو ضد) مشروع القرار، أو عبر عقد «مؤتمر سلام إقليمي» ترعاه الولايات المتحدة للغرض نفسه. وتتمثل الخطوة الثانية، وفق كيبريك، في أن يبادر الرئيس الأميركي إلى «تولّي قيادة الجهود الدولية، للاعتراف بالدولة الفلسطينية، سواء من الولايات المتحدة، أو الدول الكبرى الأخرى، كجزء من عملية دبلوماسية شاملة»، معتبراً أن تلك الخطوة من شأنها أن «تغيّر الدينامية السائدة في غزة والضفة الغربية، على نحو يجعل من الصعب على إسرائيل مواصلة عمليات قضم الأراضي هناك»، إضافة إلى أنها «ستعزّز السلطة الفلسطينية ضدّ حماس، فضلاً عن دعم الحظوظ الانتخابية لبايدن، بصورة تمكّنه من استعادة الدعم (الشعبي) الذي فقده حين أبدى تأييده للعملية العسكرية الإسرائيلية في غزة». أمّا الخطوة الثالثة والأخيرة، فهي الاتفاق على ما سمّاه «صياغة نظام حكم فلسطيني، ذي طابع دولي، لفترة انتقالية»، قبل تطبيق «حل الدولتين»، موضحاً أن هذا يقتضي «تشكيل قوة دولية من الدول العربية والغربية لتحلّ تدريجياً محلّ القوات الإسرائيلية في غزة، بحيث تتولّى الإدارتَين الأمنية والتنموية للقطاع». وبحسب الكاتب، فإنّه «في حال تمّ تحديد سبيل للتوصّل إلى حلّ الدولتين، فإن الدول الأوروبية والعربية ستوافق على الاستثمار في بناء البنية التحتية المادية والمؤسّسية لسلطة فلسطينية معادٍ تأهيلُها، كما سبق أن عبّر بايدن».