المرة المئة بعد الألف
} د. علي أكرم زعيتر-البناء
ما سبب استهداف الجيش الإسرائيلي للصحافيين؟ هل هناك قرار مبيَّت لدى قيادة جيش الاحتلال يقضي باستهداف كلّ ما من شأنه فضح الوحشية الإسرائيلية، أم أنّ الأمر لا يعدو أن يكون استهدافاً غير مقصود؟
للإجابة على هذا السؤال، علينا أولاً أن نبحث في سجلات الجيش الإسرائيلي لنعرف ما إذا كانت المرة الأولى أم أنها المرة المئة بعد الألف التي يستهدف فيها الطواقم الصحافية.
في جولة سريعة على تاريخ الجيش الإسرائيلي مع الصحافة وأهلها، يتبيّن لنا أنه تاريخ حافل بالقتل والتصفية والتنكيل والاضطهاد، لا سيما من كان منهم متعاطفاً مع القضية الفلسطينية كحال الشهيدين فرح عمر وربيع معماري اللذين قضيا الثلاثاء الماضي بقذائف مُسيّرة إسرائيلية استهدفتهما بينما كانا يؤدّيان رسالتهما الإعلامية.
الشهيدان كانا يرتديان كامل الزيّ الإعلامي، ويضعان شارة (صحافة) ما ينفي احتمال استهدافهما على سبيل الخطأ. القرائن والأدلة تشير جميعها إلى أنّ الاستهداف كان مقصوداً، وإلى أنّ من أصدر الأوامر بالقتل كان يعلم جيداً أنّ الشهيدين يعملان في قناة «الميادين»، وهي إحدى القنوات التي يصنفها الجيش الإسرائيلي ضمن خانة القنوات المعادية، ما يزيد من اقتناعنا بأنّ الجريمة كانت لدواعٍ انتقامية.
هناك داخل الجسم الإعلامي اللبناني والعربي من يسخر من فرضيتنا هذه، متذرّعاً بجريمة استهداف المصوّر عصام عبد الله قبل أسبوعين من اليوم. فعصام كان يعمل لصالح وكالة «رويترز» المعروفة بانحيازها لكيان الاحتلال، ما ينفي فرضية تعمّد جيش الاحتلال استهداف الصحافيين المناوئين له.
هذا المنطق الذي يتحدث به بعض أهل الصحافة، قد لا يخلو من شيء من الصحة، فآلة القتل الصهيوني حينما تَشْرَع في أعمال القتل لا تميّز بين عدو وصديق. ولكن مهلاً، ألا تعدّ جريمة قتل فرح وربيع في هذا الوقت بالتحديد مريبة نوعاً، لا سيما أنها تزامنت مع قرار إسرائيلي صدر قبل أيام يقضي بإغلاق مكاتب «الميادين» في الأراضي المحتلة؟ هل من قبيل الصدفة أن تصدر سلطات الاحتلال قراراً بإغلاق مكاتب «الميادين»، ثم تعمد طائراتها المُسيّرة بعد أيام إلى استهداف فريقها العامل في جنوب لبنان؟ الأمر فيه إنَّ، أو هذا على الأقلّ ما يبدو.
في بيانها الذي نشر أول من أمس، والذي أدانت فيه استهداف جيش الاحتلال لفريق قناة «الميادين»، ذكرت حركة حماس أنّ نحو 65 صحافياً غزَّاوياً قضوا بنيران جيش الاحتلال منذ بدء العدوان على غزة في 7 تشرين الأول 2023، كان آخرهم الإعلامي مصطفى الصواف، والصحافي بلال جاد الله، وآلاء حسنات، وآيات خضور. هذا الرقم المهول يفضح زيف ادّعاءات الجيش الصهيوني الذي ما انفكّ يقول، إنّ استهدافه للصحفيين غالباً ما يكون على سبيل الخطأ.
إنّ احتمال الخطأ أو النيران الصديقة كما يُعرف في العلم العسكري وارد بقوة، ولكن ليس بهذه الأعداد. عندما يتخطى العدد السقف المعقول، فاعلم عزيزي القارئ أنّ ما يحدث ليس ضرباً من ضروب الخطأ أو التشخيص غير الدقيق، وإنما ضرب من ضروب الانتقام والترويع. أضف إلى ذلك أن من لا يتوانى عن استهداف طواقم الإسعاف والاستشفاء، ولا يتردّد للحظة في قتل الأطباء والممرّضين، لن يجد حرجاً أو ضيراً في قتل الصحافيين والتنكيل بهم. المعادلة سهلة وواضحة جداً ولا تحتاج إلى الكثير من التفكير. من يقتل طبيباً لن يوفر صحافياً.
لـ «إسرائيل» سجل حافل في اغتيال الصحافيين وتصفيتهم والتنكيل بهم، ما يضعها في دائرة الشبهات عند كلّ جريمة تطال صحافياً من هنا أو هناك، لا سيما في ظلّ ظروف مشابهة لظروف العدوان على غزة، الأمر الذي يدعونا إلى التفكُّر ملياً في شأن أولئك (الإعلاميين اللامعين) الذين خرجوا علينا بالأمس عبر منصات وسائل التواصل، ليُمْتِعونا بتحليلاتهم ”الواقعية“، والتي صبّت معظمها في خانة تبرئة ساحة جيش الاحتلال من الاستهداف العمد للصحافيين الشهيدين فرح وربيع، وترجيح فرضية الاستهداف الخطأ!