«طوفان الأقصى»: نتائج الجولة الأولى من الحرب… ماذا بعدها؟
} العميد د. أمين محمد حطيط*-البناء
أوقفت الهدنة التي توصّلت إليها «إسرائيل» مع المقاومة الفلسطينية – حماس بوساطة أميركية/ مصرية/ قطرية، أوقفت هذه الهدنة وبشكل مؤقت النار في الحرب التي اندلعت بعد عملية طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة الفلسطينية ضدّ «إسرائيل» في غلاف غزة، وهي الحرب التي شنّتها «إسرائيل» من أجل تحقيق ثلاثة أهداف هي:
ـ تحرير الأسرى الذين اعتقلتهم المقاومة الفلسطينية أثناء عمليتها، وعددهم يتراوح بين 253 و280 بين مدني وعسكري وفيهم بعض الأجانب او بعض مزدوجي الجنسية.
ـ تفكيك حركة حماس وشطبها من القطاع ووضع حدّ لحكمها فيه، وتالياً تفكيك المقاومة في غزة.
ـ إحداث تغيير ديمغرافي في القطاع وإعادة توزيع السكان فيه بشكل يحول دون تشكل الخطر مجدّداً منهم على المستوطنين في غلاف غزة.
من أجل هذه الأهداف شنت «إسرائيل» حربها على القطاع الذي يعاني من حصار خانق متواصل منذ العام 2008 ويتسبّب بإلحاق الضرر بسكان القطاع من شتى الوجوه، حصار كان سبباً من أربعة أسباب دفعت حركة حماس لشنّ حملة «طوفان الأقصى» ضدّ «إسرائيل»، أسباب تمثلت بتحرير الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، ووقف إجراءات تهويد القدس وأماكنها المقدسة وأولها المسجد الأقصى، وأخيراً مواجهة تصفية القضية الفلسطينية واسترسال مزيد من الدول العربية في مسار التطبيع مع «إسرائيل».
إذن كان للمقاومة الفلسطينية أسبابها التي حملتها إلى الميدان عبر حملة طوفان الأقصى، حيث سجلت نجاحاً جاء فوق ما خططت له وتعدّى ما توقعت وفاقت استعداداتها وتحضيراتها لاستيعابه، ومع ذلك بذلت جهداً واضحاً للتعامل مع نتائجه، أما «إسرائيل» فقد شعرت بأنها ضربت بزلزال استراتيجي وعسكري ميداني ونفسي أفقدها التوازن وعطل قدرتها على الاستيعاب والتحليل، وحال دون قيامها بتقدير موقف علمي موضوعي تتخذه مدخلاً لاتخاذ القرار بالردّ، ما جعلها تقوم بردّ فعل إجرامي ضدّ قطاع غزة الذي سلطت عليه ما يزيد عن ربع سلاحها الجويّ الذي كلفته العمل بسياسة الأرض المحروقة قتلاً وتدميراً وتشريداً.
وبعد نيّف وثلاثة أسابيع من الأعمال التدميرية الإسرائيلية التي ارتكبها الطيران والمدفعية الإسرائيلية بحق قطاع غزة، اندفعت القوات البرية المدرّعة والمشاة المؤللة مسندة بالطيران والمدفعية، الى داخل قطاع غزة بعد أن حدّدت مسرحاً مرحلياً لهجومها وهو القسم الشمالي من القطاع بمساحة تعادل 30% من مجمل مساحة القطاع (مساحة القسم المستهدف تلامس الـ 100 كلم2) شاملاً مدينة غزة، مؤملة من هذه العملية البرية التي أسمتها المناورة البرية، أن تحرّر الأسرى وتلقي القبض على قيادة حماس وتهجر معظم السكان من كامل مساحة القسم المستهدف.
استمرّت «إسرائيل» في عمليتها البرية ما يزيد عن ثلاثة أسابيع، استباحت فيها كلّ مرافق الحياة المدنية في مسرح العمليات فاقتحمت ودمّرت المستشفيات ودور العبادة والمدارس والجامعات والمخابز ومراكز الإيواء وارتكبت شتى فنون جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية بما فيها جريمة الإبادة الجماعية، لكنها واجهت مقاومة منظمة عالية المستوى في الإعداد والتحضير والتنفيذ، مشحونة بكمّ من المعنويات يفوق الخيال، ما عطل على القوات «الإسرائيلية» تحقيق أيّ من أهدفها، وأوقعها في مصيدة جعلت الآليات والعسكريين يتساقطون ويتطايرون ويفرّون من الميدان في مشهد جعل «إسرائيل» ورعاتها يوقنون بأنّ «إسرائيل» غرقت في مستنقع لن يكون الخروج منه سهلاً.
ولم يقتصر المأزق «الإسرائيلي» على ما حلّ بجيشها في شمال قطاع غزة، بل تفاقم الوضع سوءاً مما حملته رياح الشمال من جبهة فتحتها المقاومة الإسلامية في لبنان، وما قام به الجيش الوطني اليمني في الجنوب من إسناد للمقاومة في غزة مضافاً إليهما ما قامت به المقاومة العراقية ضدّ القواعد الأميركية في سورية والعراق.
ففي جبهة لبنان/ فلسطين المحتلة تحركت المقاومة الإسلامية في لبنان وأشعلت جبهة بطول 100 كلم وعمق 6 كلم، أيّ مساحة 600 كلم2، وهي تعادل ضعفي مساحة قطاع غزة، وأجبرت «إسرائيل» على تخصيص ما بين ثلث الى نصف قدراتها العملانية لها، كما أنها أوقعت في صفوف الجيش الإسرائيلي 1570 إصابة وهجّرت أكثر من 70 ألف مستوطن غادروا 14 مستوطنة حدودية. حيث عملت المقاومة من لبنان وفقاً لاستراتيجية الضغط المرن المنسق مع المقاومة في غزة، وهي استراتيجية معقدة وصعبة التنفيذ ومع ذلك نجحت المقاومة في لبنان بالعمل بها إيما نجاح ووجهت رسالة قاسية للعدو أجبرته على التصرف بذهنية الخائف المردوع.
أما على الاتجاه اليمني فقد شكلت مُسيّرات اليمن وصواريخه التي استهدفت ام الرشراش ـ إيلات المحتلة، متبوعة بعملية احتجاز السفينة التجارية الإسرائيلية في البحر الأحمر، مشهداً مقلقاً لـ «إسرائيل» وأميركا التي تلقت قواعدها العسكرية نيراناً من المقاومة العراقية وأيقنتا (أيّ أميركا وإسرائيل) أنّ الاستفراد بأحد مكونات محور المقاومة لن يتمّ، لأنّ هناك مسرح عمليات مقاوماً متماسكاً تشكل في غربي آسيا يعمل فيه محور المقاومة بالتناسق ويواجه المنطقة الأميركية الوسطى التي ضمّت «إسرائيل» إليها مؤخراً.
لكلّ هذه الأسباب معطوفة على ما بدأ يتبلور عالمياً من تحوّل في الرأي العام الدولي ضدّ وحشية «إسرائيل» وإجرامها، لكلّ هذه الأسباب سعت أميركا عبر قطر ومصر إلى هدنة تلتقط فيها الأنفاس تحت شعار إنساني تمكن «إسرائيل» من تلمّس الطريق للخروج من مأزقها، هدنة تلقفتها المقاومة في غزة من أجل التخفيف عن السكان المدنيين في القطاع وإغاثتهم بقدر معقول من المساعدات المعيشية، وتمكن من تبادل عدد من الأسرى ويفسح المجال أمام الاستفادة من الوقت لتقييم الموقف وإعادة التنظيم والتوزيع ومعالجة الثغرات والاستعداد للمرحلة التالية.
لقد وقّعت «إسرائيل» اتفاق الهدنة المؤقتة، مع الطرف الذي شنّت الحرب لسحقه، وقبلت بعملية تبادل الأسرى خلافاً لما تعهّدت به بشأن تحريرهم بالقوة، وألزمت بعدم التعرّض للسكان في شمال القطاع لا بل ألزمت بتمكينهم من الحصول على المساعدات اللازمة لمعيشتهم هناك أيّ أنّ اتفاق الهدنة تضمّن إقراراً إسرائيلياً بالفشل في الحملة البرية بكلّ وضوح. ما يطرح السؤل ماذا بعد الهدنة؟
يتوعّد المسؤولون الإسرائيليون بأنهم عائدون الى الميدان بعد الهدنة وأنّ الحرب ستستأنف بعد الأيام الأربعة «لتحقيق أهدافها»، ويقول بعضهم إنّ الجيش الإسرائيلي سيستمرّ في القطاع منتشراً حتى يحرّر المخطوفين (أيّ الأسرى الإسرائيليين) وقليل منهم من يعلن أنّ الهدنة قد تجدّد أو تمدّد تكراراً إلى أن تنقلب الى وقف إطلاق نار ضمني دائم يثبت هزيمة «إسرائيلية» أخرى، فأيّ من هذه المواقف سيكون أو يُعمل به؟
في الواقع نجحت المقاومة في وضع «إسرائيل» بين خيارين كلاهما يتضمّن خسارة مؤكدة، مع التفاوت في الحجم وبات على «إسرائيل» أن تعمل باستراتيجية تحديد الخسائر بعد أن غادرت احتمالات تحقيق الأرباح وتأكد انهيار قوة الردع وتهشم الهيبة العسكرية وانحلال المناعة القومية.
فإما أن تقبل بتمديد الهدنة وعدم العودة الى الميدان ما يعني وبكلّ بساطة تثبيتاً لهزيمة 7 أكتوبر وإقراراً بالفشل في معالجتها وتراجعاً عن كلّ ما أطلق من تهديد ووعيد وابتلاع هزيمة إضافية ميدانية.
أما العودة الى الميدان فتواجه بالسؤال: هل مَن عجز وهو في ذروة قوته مع الدعم العالمي له، عن تحقيق أيّ شيء من أهدافه، ووقع على حدّ قول الإعلام الإسرائيلي في كمين دولي إنساني أدّى الى انقلاب عالمي واضح ضدّه، هل هو قادر على الربح تعويضاً لما فات؟
الجواب ببساطة انّ من فشل في مهلة 7 أسابيع في تحقيق شيء من النجاح العسكري في الميدان لن يستطيع أن يعوّض الفشل بمهلة إضافية لا تتجاوز الأسابيع الثلاثة، هي المهلة الأخيرة المتبقية التي يسمح الواقع الإسرائيلي باستغلالها في حرب يستأنفها، وبالتالي يكون استئناف الحرب طريقاً لمزيد من الخسائر وتكريساً للعجز وتراكماً للهزائم. وعليه فإنّ «إسرائيل» بين خسارتين فأيّ خسارة تختار؟ الساعات المقبلة ستحمل الإجابة…
*أستاذ جامعي ـ خبير استراتيجي.