موضوعات وتقارير

ازدواجية المسيحيّين في التعامل مع أزمة النزوح

 

في المشهد العام، يظهر الخطاب السياسي لتنظيم وجود النازحين السوريين على أنه خطاب «مسيحي». فالتيار الوطني الحر يرفع لواء هذه القضية منذ بداية الحرب السورية، فيما بدأت القوات اللبنانية التي تعرّضت لاتهامات بأنها – مع قوى من 14 آذار – رحّبت بهذا النزوح الذي كان حينها «معارضاً» للنظام السوي، حملة للضغط على المفوّضية العليا للاجئين لوقف مسار النزف اللبناني تحت وطأة النزوح. في الحالتين، هناك جانب حقيقي في اعتبار أن المسيحيين عموماً يتخوّفون من حجم النزوح وارتداداته نتيجة هاجس الديموغرافيا وثقل الخلل الطائفي والمستقبل والهجرة التي تستنزف مجتمعهم، وفي خلفية كل ذلك الموقف من النظام السوري نتيجة سنوات من الصراع معه، بما في ذلك حلفاء سوريا اليوم من المسيحيين. لكن ذلك لا يعني أن المجتمعات الطائفية الأخرى لا تتعامل مع النزوح على قدر خطره، إلا أن الاعتبارات الواقعية، نتيجة دور حزب الله في سوريا والتماهي السني في بداية الحرب السورية مع النازحين، كل ذلك جعل القضية تأخذ بعداً غير دقيق. علماً أن جواً إعلامياً منسجماً مع جمعيات مستفيدة من التمويل الغربي ساهم في تزكية هذا الانطباع.

اليوم، ومع الضجة الإعلامية حول «اكتشاف» النزوح السوري، لا يمكن قراءة موقف القوى المسيحية مما يجري وكأنها ليست مسؤولة، ولو أخذت في الاعتبار واقع دور حزب الله في تأخّرها في مساءلة المجتمع الغربي، من دون الكلام عن مسؤولية الحزب في مكان دقيق وجوهري عما وصلت إليه عمليات تدفّق النازحين، إضافة إلى تحميلها الحكومات المتعاقبة مسؤولية استسهال ملف النازحين سياسياً وأمنياً، عدا ما استفادت منه وزارات عدة من التمويل المتدفّق عبر مساعدات عينية، وطبعاً مسؤولية الجيش والقوى الأمنية التي تتغاضى ليس فقط عن عمليات التهريب، إنما عن معالجات داخلية. كسؤال بديهي: هل تملك القوى الأمنية – من أمن عام وقوى أمن وجيش – فعلاً داتا معلومات وإحصاءات دقيقة عن الانتشار السوري في لبنان وأين يتمركز؟ وهل يُعد عادياً تأخر ضباط الجيش عن مواكبة أمنية حقيقية ميدانية أو استباقية لبعض الأحداث اللافتة في مناطق حساسة؟

ليست لدى القوى السياسية المسيحية فعلاً إجابة حول سبب التخلي الغربي عن لبنان في موضوع النزوح السوري، وتعيش حالة تردد واضحة حيال ما يمكن أن يكون مقصوداً، وإلى ماذا يهدف السماح بتحوّل لبنان إلى ملاذ للسوريين الذين أصبحوا يشكلون عبئاً اقتصادياً وأمنياً وسياسياً. والطرفان المعنيان ينسجان علاقة متفاوتة التأثير مع عواصم غربية والاتحاد الاوروبي وواشنطن، من دون التوصل إلى قراءة حقيقية حول ما يُعدّ للبنان.
لم تعد الإشكالية في التعاطي مع النازحين تتعلق بضبط الحدود وتنظيم عودتهم إلى سوريا، بل صارت القضية في محاولة فهم ما يُرسم للبنان، في ظل الإصرار على التغاضي قصداً عن المطالبات اللبنانية المتكررة منذ سنوات، وغضّ النظر عن عمليات تنظيم «الهجرة إلى لبنان»، بما يتعدى التهريب الروتيني.

والخوف السياسي من الوقوف في وجه الدول الغربية، خشية العقوبات والمقاطعة، قد يكون مبرراً لحجم السكوت عما يجري، والاكتفاء بالحشد الإعلامي الموسمي. علماً أن تحذيرات وصلت إلى هذه القوى منذ أشهر قليلة من موجة هجرة مقصودة بطابع اقتصادي ستكون وجهتها لبنان بالمئات. لكنّ التحذيرات لم تدفع إلى التحرك بفاعلية استباقية.

منذ أيام قليلة، وقع إشكال كبير بين عشرات (تحوّلوا إلى مئات) النازحين السوريين في إحدى مناطق بحمدون. الإشكال دام وقتاً طويلاً استخدم فيه المشاركون العصي والسكاكين وقطعوا الطريق الرئيسية المؤدية إلى بلدات المنطقة، قبل أن تنجح الاتصالات في دفع قوة من الجيش إلى التدخل لفضّ الإشكال.
الحادث ليس الأول أو الأخير، وحكماً ليس فريداً من نوعه، ولا يصبّ في خانة موضة الكلام عن النازحين السوريين. بل يعكس وجهاً من وجوه الأزمة من منظار مسيحي. والكلام هنا ليس بالمعنى الطائفي الذي تحاول جمعيات المجتمع المدني استخدامه في إعطاء صفة العنصرية والطائفية على أي كلام يمسّ النازحين. الكلام هنا يعني المسيحيين من زاوية سياسية لأسباب عدة:
تميّز قوى معنية وجود النازحين في مناطق جبل لبنان وشمالاً حيث وجود القوى الحزبية المسيحية، عن الوجود في مناطق جبل لبنان – الدرزي، حيث نفوذ الحزب التقدمي الاشتراكي، وحيث مناطق انتشار الثنائي الشيعي، والمناطق ذات الأكثرية السنية. ورغم أن الصرخة عالية في كل المناطق جراء ارتفاع عدد النازحين ولا سيما في الموجة الجديدة، إلا أنه بين الانطباع أن لدى المرجعيتين الدرزية والشيعية قدرة على فرض إدارة الوضع السوري وعلى ضبط الإشكالات والتخفيف من حدّة أي خروج عن المألوف، وبين تماهٍ سني – سوري في بعض المجتمعات، تصبح المناطق ذات الأكثرية المسيحية هي من تهتز تحت وطأة ارتفاع ملحوظ للنازحين. الإشكالية هنا مزدوجة، لأن مسؤولية التحول السكاني اللافت لا تتعلق فقط بقرار سياسي يفترض أن تتخذه الحكومة. فالمسؤولية موزّعة بين مستويات مختلفة من قيادات الأحزاب إلى البلديات التي تنافست الأحزاب المسيحية للقبض عليها، إلى أصحاب المصالح والشقق والمحالّ التجارية.

الإضاءة على حادثة بحمدون مثلاً، في هذا الإطار، تحمل أكثر من مغزى، لأنها تعكس حال بلدات الجبل الذي يتركه أهله شتاء إلى العاصمة، فيما يرتفع فيه عدد النازحين المقيمين صيفاً وشتاء. ولأنها تحوّلت أمنياً إلى منطقة إستراتيجية لشبكات التهريب التي تنقل نازحين إليها قبل توزّعهم في مناطق أخرى، وكونها باتت تضم بلدات، إحداها رئيس بلديتها موالٍ للتيار الوطني تحوّلت أحياء منطقته إلى أحياء سورية، في كل مظاهرها الاجتماعية والحياتية. والتيار الذي يرفع رئيسه منذ سنوات شعار ضبط النزوح، لم يجد وسيلة لضبط إيقاع رؤساء بلديات مستفيدين من عمالة السوريين والسماح بإشغالهم منزلاً بالإيجار تحت ذريعة «تدخل جمعيات الأمم المتحدة وفرضها كوتا معيّنة على البلديات». في حين تحافظ بلديات مجاورة، من غير انتماء حزبي، على مجموعة من التدابير التي تمنع انفلاش العمالة السورية وتشكيلها مجتمعاً قائماً بذاته. وفي وقت يلتزم عدد محدود من رؤساء بلديات تابعة للتيار بمجموعة إجراءات تنفيذية لضبط وجود النازحين، ثمّة لائحة طويلة من رؤساء بلديات من قوى حزبية مسيحية معارضة تغطي انتشار النازحين في شكل فاقع، إذ إن بعض بلدات المتن الأوسط وجرود المتن وكسروان وجبيل أصبحت تقع تحت ضغط صناعي وتجاري لمئات السوريين بعلم البلديات وتغطيتها، بذرائع الحاجة إلى العمالة الزراعية الموسمية أو الصناعات الحرفية، وبعض البلدات التي تعارض بيع أو تأجير مسلمين لبنانيين فتحت أبوابها للنازحين لتستفيد من إيجارات وأعمال تجارية وفتح محالّ ومكاتب من دون أي مساءلة.

ولا يمكن للأحزاب المسيحية ولا لمناصريها التخفيف من حجم المسؤولية حين تصبح غالبية الأماكن السياحية والمطاعم والمؤسسات التجارية تستخدم نازحين سوريين وتغطي تأجيرهم وبيعهم مئات الدراجات النارية. وحين يؤجّر لبنانيون شققهم ومحالّهم لنازحين سراً. حتى الكنيسة الضائعة بين تعاليم سيدها وعظات البابا فرنسيس تضامناً مع النازحين، وبين الضغط السياسي لمعالجة ملف النزوح، تستعين بنازحين في الأوقاف وأديرة ومؤسسات ومصالح زراعية أو أشغال حيوية. فيما بعض جمعيات كنسية عالمية تخصّص مساعدتها فقط للنازحين. وجميع المستفيدين بطريقة أو بأخرى من مجتمع النازحين، عبر جمعيات إنسانية وتقاضي رواتب بالدولار، أو رؤساء البلديات أو من يؤجّر منزلاً أو محلاً تجارياً أو يستخدم عمالاً أو يساهم في تعزيز وجود النازحين، هم مناصرو الأحزاب المسيحية التي تتهم النظام السوري وحزب الله بالمسؤولية الكاملة عن النزوح، وهم أنفسهم المستفيدون من النزوح يتظاهرون ضده.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى