غزة: السيناريو المُتجاهل عن اليوم التالي
ليست الخسائر الميدانية وحدها ما أثارت كرب المسؤولين الإسرائيليين وفي الإدارة الأميركية، إنما سحب بساط الرأي العام الدولي من تحت القدم الإسرائيلية، والذي أظهرته التظاهرات العارمة في واشنطن ونيويورك وفي أوتاوا وباريس، ولندن التي فاق المتظاهرون فيها المليون، علماً أن 10 داوننغ ستريت كانت الأكثر عداء للفلسطينيين والأكثر تأييداً للهمجية الإسرائيلية.
المثير للانتباه، ليس فقط هذا الموقف الشعبي العالمي الرافض للمذبحة التي تقترفها إسرائيل في قطاع غزة، والمقتلة المنفلتة من أي عقال ضد الأطفال والنساء، بل الأصوات التي خرجت من قلب الجهاز الإداري الحكومي الأميركي المنتقد لإسرائيل وللتأييد غير المنضبط من قبل الرئاسة ووزارة الخارجية لما تقترفه تل أبيب، وظهر أول ما ظهر عبر رسالة نحو 100 موظف في الخارجية ينتقدون السياسة التي يتّبعها أنتوني بلينكن، باعتبارها ليست في مصلحة الولايات المتحدة، وإعلان رئيس لجنة الاستخبارات في الكونغرس أن إسرائيل فقدت كل تعاطف لها لدى الرأي العام العالمي، والكشف عن أن مسؤولة في المخابرات الأميركية (CIA)، نشرت تدوينة مؤيّدة للفلسطينيين على وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي أربك الإدارة الأميركية.
لكن ماذا عن اليوم التالي؟
كل ما سبق هو حقائق لم تعد بحاجة إلى أي برهان، لكن يبقى السؤال عن اليوم التالي، غير ذلك التخرّص الأميركي الإسرائيلي، قائماً، بل ملحاً ويستدرج احتمالات كثيرة.
لقد دمّرت الهمجية الإسرائيلية أكثر من 60% من الأبنية في محافظتي غزة وشمال غزة، تدميراً كاملاً أو جزئياً، لكن لا يمكن السكن فيها مجدداً، ودمّرت جميع الأسواق التجارية، وأخرجت جميع المستشفيات من الخدمة، ما عدا مستشفى كمال عدوان الصغير القدرة على استيعاب الكم الهائل من المرضى والجرحى، ولم تُبق أو تذر في البنية التحتية، وخرّبت الأراضي الزراعية، كل ذلك في مسعى للقضاء على إمكانية الحياة في تلك البقعة الضيّقة من الأرض الكثيفة سكانياً.
يُمكن، بناءً على النتائج الأولية للحرب، الزعم أن المقاومة انتصرت عسكرياً، وليس فقط بصمودها بل بحجم الخسائر التي ألحقتها بالمعتدي، وبهزالة مساحة السيطرة على الأرض من قبل المحتل. وانتصرت سياسياً، بإسقاط الغزّيين للتهجير وعدم تجاوب مصر مع هذا المخطط الذي يؤدي إلى نكبة ثانية كانت هدفاً مُعلناً، وبدبّ الخلافات في قلب إسرائيل التي سعت أن تظهر موحّدة، والتمرد لدى موظفين حكوميين أميركيين على سياسة إدارتهم، والانقلاب المثير للرأي العام العالمي ضد إسرائيل والحكومات الشمالية الداعمة لها، وإجبار إسرائيل على تبادل الأسرى مثلما أرادته المقاومة. وانتصرت معنوياً، بتوحّد الشعب الفلسطيني في جميع أماكن وجوده خلف المقاومة وظهور تشقّقات في المجتمع الإسرائيلي إزاء النتائج الهزيلة للعدوان الكبير… وغير ذلك الكثير.
لكن يبقى سؤال اليوم التالي قائماً، بل ملحاً، وشديد الخطورة، ليس على المقاومة والفلسطينيين الذين قد يجدون أنفسهم، بل على الأغلب سيجدون أنفسهم، أمام اشتراطات إعادة الإعمار، بل ما يُمكن أن يُصيب العالم من ردة فعل الفلسطينيين والعرب المنتشرين في أصقاع الدنيا على ما يُمكن أن يُفرض عليهم من خيارات تطيح بما أنجزوه خلال معركة «طوفان الأقصى».
إنّ إعادة بناء قطاع غزة المدمّر سوف تحتاج إلى مليارات الدولارات، وقبل إعادة البناء، سيحتاج أهل القطاع إلى مساعدات هائلة كي يتمكنوا من الصمود أمام مجاعة محتملة وتفشّ للأوبئة بدأت ملامحها بالظهور. وقد يكون الثمن المطلوب سحب جميع، أو أهم، الإنجازات الفلسطينية التي تحقّقت بقدرة المقاومة على المواجهة والتخطيط والرؤية النافذة، وببحر الدم المُسال الذي يروي أرض العرب كلها وليس فقط أرض غزة، وفي مقدمتها مطالب سياسية تُحيي عظام السلطة الفلسطينية الرميم لتكون ذراعاً للمحتل في غزة، مثلما كانت ذراعاً له في الضفة الغربية، أو فرض وضع يريح إسرائيل المهزومة ويهزم المقاومة المنتصرة، من خلال ترتيبات ميدانية تضمن أمن المستعمرات المبنية على أرض أهل غزة الذين هُجّر آباؤهم منها في سنة 1948، واقتُطعت بعد ترتيبات إدارية بين الإدارة المصرية وإسرائيل لاحقاً فيما يُطلق عليه غلاف غزة الذي هو في الحقيقة المزارع الخصبة لقطاع غزة.
ما سبق سيناريو أكثر من محتمل، لكنه لن يكون السيناريو الوحيد، بل ثمة احتمال قد يكون مرعباً، لكنّ شيئاً مشابهاً سبق أن حدث.
في نهاية ستينيات القرن الماضي ومطلع سبعينياته، وعندما كان العمل الفدائي في بداياته، وبعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، كانت القضية الفلسطينية شبه غائبة عالمياً، وسط هيمنة إسرائيلية على الرأي العام العالمي، ودعم غير محدود للحكومات الغربية لتل أبيب، فيما الشعب الفلسطيني قابع في مخيمات اللجوء، وممنوع من التعبير عن غضبه في معظم الدول العربية، أو بعض الأنظمة تصادر القضية لمصلحة الحكّام؛ لم يكن أمام الفلسطينيين سوى العنف وسيلة للفت النظر إلى مأساتهم ومظلوميتهم من البعيد وذوي القُربى. فلجأ طلائعيون منهم إلى العنف على المستويين العربي والدولي: خطف طائرات (منذ 1968)؛ وعمليات خارجية (ميونيخ 1972)، وعملية أوبك في فيينا (1975)، وبعد عام 1982 خطف الباخرة «أكيلي لاورو» (1985)، فضلاً عن تمكّن فصائل فلسطينية من تشكيل جبهة عالمية ضمّت الكثير من الحركات الثورية العنفية في أوروبا وآسيا والقارة الأميركية، عملت متآزرة في أعمال عنف طاولت مصالح غربية وعربية.
الواضح مما ظهر شعبياً لدى الفلسطينيين في جميع أماكن وجودهم عدم استعدادهم للتسليم بالانكسار بعد المكاسب التي حقّقتها المقاومة ودم الأطفال المسال في غزة، فهل العالم مستعدّ للسيناريو الآخر الذي لا يجب استبعاد احتمالاته؟