مقالات

“سندفن غالانت في لبنان”

نبيه البرجي- الديار

“لم تعد الأمهات يستقبلن أبناءهنّ بالورود. الاستقبال الآن بالدموع “. هذا ما يراه خبراء عسكريون أوروبيون. يقولون بذهول “ان مشكلة “اسرائيل” ليست في امتلاك الفلسطينيين الصواريخ التي تصل الى “تل أبيب”، وانما في نوعية الرجال مقابل “الاضطراب الدراماتيكي” في معنويات الجنود “الاسرائيليين”، الذين لم يواجهوا من قبل مثل هذا الاختبار على الأرض الفلسطينية” !

واذا كانت “هاآرتس” قد تحدثت عن تأثير “المدرسة الفيتنامية” في أداء مقاتلي حزب الله، تشير الآن الى تأثير “المدرسة اللبنانية” في الأداء الخارق للمقاتلين الفلسطينيين. في كل الأحوال، “الجيش الاسرائيلي” الذي طالما راهن على دور التكنولوجيا العسكرية في تحديد مسار الحروب، يجد نفسه الآن أمام ذلك الشيء الذي يدعى “التكنولوجيا البشرية”، أي السوبر مقاتل. مثلما فوجئ “الاسرائيليون” في بنت جبيل بخروج المقاتلين من شقوق الجدران، يفاجؤون اليوم بخروج المقاتلين من الأنقاض. في الحالتين… القتال ضد الأشباح.

للمرة الأولى يصل الينا ذلك النوع من الآراء التي تنشر في الصحف “الاسرائيلية” أو عبر القنوات التلفزيونية. هيئة الأركان التي تواجه التجربة المرّة في غزة، تتصور ماذا يمكن أن يكون عليه الميدان اذا أعطيت لها الأوامر بتفجير الصراع مع لبنان. اقرار بأن صواريخ حزب الله موجودة في صوامع يستحيل على القاذفات الوصول اليها، كما أن مقاتليه يعرفون كيف يتعاملون مع التضاريس الطبيعية. كم يسخر هؤلاء المقاتلون من تهديدات يوآف غالانت حول العملية العسكرية ضد لبنان. بالفم الملآن “سوف ندفنه هنا مثلما دفنّا آرييل شارون”.

الخبراء الأوروبيون هم الذين يتحدثون عن “الظروف المروعة” التي يقاتل فيها الفلسطينيون. قطعة ضيقة من الأرض لا توجد فيها الجبال أو الأودية، أو حتى الأشجار والحجارة. الدبابات على الأرض والبوارج في البحر، ودون أي امكانية للتشويش على الطائرات أو للتصدي لها.

هذا هو رأي الأميركيين أيضاً. خلال أقل من شهرين صدمتهم الهشاشة العسكرية لـ “القوة التي لا تقهر”. أبلغوا أكثر من بلاط عربي أنه لولا امداد “اسرائيل”، بوتيرة يومية ومكثفة، بالسلاح والعتاد لما تردد الائتلاف الحاكم في استخدام الأسلحة النووية التكتيكية.

الجنرالات “الاسرائيليون” اعتادو تبديد أكثر من نصف الاحتياطي من القنابل والصواريخ، وتبعاً لنظرية موشي دايان، في غضون المئة ساعة الأولى، تكون هذه المدة هي التي تحسم المعركة باظهار الحد الأقصى من القوة لترويع العدو وحمله على التقهقر. نظرية سقطت بمرور الزمن. دايان نفسه الذي فقد عينه ابان الحرب العالمية الثانية، ذهب الى فيتنام ليتدرب ميدانياً على كيفية مواجهة جيش كلاسيكي لحرب العصابات.

آموس هوكشتين الذي يحاول تقمص شخصية هنري كيسنجر ـ حتى كيهودي يدرك طبيعة الأخطار التي تهدد “اسرائيل” ـ يرى أن “الضرورة الوجودية” تقتضي اقفال الجبهة اللبنانية. واذا كان من غير الوارد السعي الى عقد معاهدة سلام بين الجانبين، لا بد أن يكون الحل في انتزاع “الورقة الذهبية” من يد حزب الله، أي مزارع شبعا وتلال كفر شوبا.

من حيث المبدأ “موافقة اسرائيلية”على ايداع تلك المناطق في عهدة الأمم المتحدة، لا في عهدة السلطة اللبنانية، ولكن بشرط تعجيزي هو انشاء منطقة عازلة، وفقاً لتفسيرها لقرار مجلس الأمن رقم 1701، حتى اذا رفض لبنان ذلك، يصدر المجلس قراراً باعتماد الفصل السابع من ميثاق المنظمة الدولية، وهو الفصل الذي لم يستعمل، ولا يمكن أن يستعمل ضد “اسرائيل”، بالرغم من انتهاكها لكل قرارات مجلس الأمن منذ قيامها وحتى الساعة.

لا يمكن للبنان أن يقبل المنطقة العازلة التي تسري على طرف دون الطرف الآخر. واذا كان اللبنانيون قد أرسوا بدمائهم معادلة توازن الرعب على الصعيد العسكري، يمكنهم ارساء معادلة مماثلة على الصعيد الديبلوماسي.

تجربة غزة، أياً تكن نتائجها، أثبتت أن “اسرائيل” في مأزق وجودي فعلاً. الأميركيون يدركون ذلك. لكنها السنة الانتخابية التي ستكون عاصفة تضغط على جو بايدن، تزامناً مع التشقق الذي حدث في ادارته بسب غزة.

يبقى أن يقول هوكشتين “للاسرائيليين” الذين يصغون اليه كواحد من “حاخامات” السياسة الأميركية : انتبهوا مثلما توجد “نوعية أخرى” من الرجال في الميدان، توجد “نوعية أخرى” من الرجال في الديبلوماسية…

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى