بريطانيا وفيّة لإرثها: حرب مستمرّة على البرابرة
وكان وزير الخارجية البريطاني، جيمس كليفرلي، أول مسؤول أجنبي يزور إسرائيل بعد عمليّة «طوفان الأقصى»، في السابع من الجاري، لينتقل بعدها إلى القاهرة، ومنها إلى كلّ من الدوحة وأنقرة، لإيصال رسالة مفادها أن لندن تؤيّد «حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها». أمّا سوناك، فقد طار (الأربعاء الماضي) إلى تل أبيب على متن طائرة تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني، أقلّته تحت حراسة أمنية مشدّدة من جزيرة قبرص – التي وصلها على متن طائرة حكومية خاصة. وهناك، أجرى محادثات مع نظيره الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والرئيس إسحاق هرتسوغ، مجدّداً أمامهما موقف حكومته المعلَن من «حق (إسرائيل) في الدفاع عن نفسها ضدّ الإرهاب»، وحثّهما على ممارسة «ضبط النفس» في حربهما البرية المتوقّعة ضدّ غزة، مشدّداً على أن بلاده ترى أنه «لا يمكن بأيّ حال تبرير الفظائع التي ارتكبتها حركة حماس ضدّ الأبرياء قبل أسبوعين».
ومن الأراضي المحتلّة، انتقل سوناك إلى الرياض حيث التقى وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، ومنها إلى قطر للقاء أميرها، تميم بن حمد آل ثاني، قبل أن يزور القاهرة لإجراء محادثات مع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ورئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس. وحاول سوناك، في بيانه، الإيحاء بوجود «دور بريطاني» وراء فتح معبر رفح لإدخال بعض المساعدات إلى القطاع، بعدما قال إنه «دفع من أجل ذلك خلال لقائه مع الرئيس السيسي»، وإن المملكة المتحدة «تؤدي دوراً في ضمان حصول الفلسطينيين على الغذاء والماء والدواء الذي هم في أشدّ الحاجة إليه»؛ علماً أن الجميع يعلم أن اللاعب الرئيس هو الولايات المتحدة التي تمدّ الدولة العبرية بأسباب البقاء، وتدعم تطبيع الأنظمة العربية معها، والتي انخرطت بنفسها في الصراع من خلال نشر حاملتَي طائرات في شرق المتوسط لردع تدخُّل محتمل من أطراف أخرى لدعم موقف الفلسطينيين في غزّة، إضافة إلى وضع قوّة من عدة آلاف من مشاة البحرية الأميركية على أهبة الاستعداد للتدخّل في حال تطوّر الأوضاع.
ومع أن الجولة التي قادت سوناك إلى تل أبيب والرياض والدوحة والقاهرة، وتضمّنت فرصاً عديدة لالتقاط الصور مع العديد من زعماء المنطقة، قد تكون مفيدة لتعزيز موقفه انتخابياً في إطار سعيه لبناء صورة «رجل ديبلوماسي مرموق»، تحضيراً للانتخابات العامّة المقبلة، فهي لا شكّ ستعزّز من أوراق اعتماده لدى اللوبي الصهيوني الفاعل في بلاده، كأمين على المصالح الإسرائيلية، كما من حظوته لدى الحليف الأميركي. على أن الثقل البريطاني التاريخي المرتبط بمرحلة تكوين الشرق الأوسط الحديث، ورسم حدود دوله، وتوزيع شبكة السلالات الحاكمة فيه، لا يمكن إلغاؤه بجرّة قلم؛ لكن الحقيقة أنه على رغم استمرار بعض معالم التعاون مع أنظمة المنطقة في مجالات التدريب العسكري (والمقاولات) الأمنية، فإن بريطانيا التي قلّصت من اهتمامها بالمنطقة خلال السنوات الأخيرة، ورشّدت إنفاقها هناك، أصبحت تأتي من حيث التأثير بعد قائمة طويلة من الأطراف الدولية المعنيّة بصراعات النفوذ في المنطقة، بما في ذلك حتى دول ثانوية مثل ألمانيا، وفرنسا. وفي الوقت الذي كانت تجهد فيه المملكة المتحدة – بعد استفتاء «بريكست» والخروج من الاتحاد الأوروبي – لإعادة تشكيل منظومة علاقاتها الدولية بعيداً من هيمنة بروكسل، فإن النخبة الحاكمة أهملت مناطق النفوذ البريطانية التاريخية، وتعاملت معها بمثابة أمر مفروغ منه، وقلّصت ميزانية مساعداتها الموجّهة إلى العالم العربي بأكثر من 90 مليون جنيه استرليني، وانتقل تركيز طواقمها الديبلوماسية إلى مناطق تقاطعات النفوذ الملتهبة في أوكرانيا، والشرق الأقصى.
وهكذا، انتهى إرث حكومات «حزب المحافظين» المتتالية منذ 2011، إلى تغيير محور الاهتمامات نحو أستراليا وشرق آسيا وأوكرانيا في تبعيّة تامّة للخطّ الأميركي، فأهُمل الأصدقاء التقليديون لبريطانيا في الشرق الأوسط، حتى لم يَعُد هناك وزير لدى الخارجية البريطانية معنيّاً بشؤون المنطقة، كما كانت عليه الحال في نهاية القرن الماضي، فيما لم يتمّ بناء صداقات جديدة. ولعلّ الأسوأ من ذلك كلّه، هو انحياز السلطات البريطانية الكلّي إلى الموقف الإسرائيلي، ما يفقد سوناك – أو أيّ رئيس وزراء بريطاني في الحقيقة – أيّ أدوات للقيام بدور وسيط موثوق بين مختلف الأطراف، ويحيل بريطانيا، التي كانت يوماً ما المرجع الأول لشؤون المنطقة، إلى مجرّد سكرتير لدى الأميركيين، وهو ما تجلّى بوضوح في غياب أيّ صدى لكلمة وزير خارجية سوناك في «قمّة السلام» التي انعقدت في القاهرة، السبت، ولا سيما أنه كرّر لازمة «حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، مع تمنياته في أن يُظهر جيشها شيئاً من»الانضباط والمهنية وضبط النفس».