صاحب الدار جُنّ [3]: أيّ غزو يوفّر للعدو انتصاره المنشود؟
أما العاملون في المقاومة، ممن تعرّفوا ميدانياً إلى العقيدة الفعلية لجيوش إسرائيل والغرب، فقد علّمتهم التجارب أن جيش الاحتلال نفسه تجاوز، منذ زمن بعيد، فكرة الوقوف على خاطر الرأي العام في ما يتعلق بقرارات الحرب. وعندما اعتُمدت «خطة هنيبعل» في عقيدة جيش العدو، كان هدفها إعفاء الضباط والجنود من أي مساءلة حيال الخسائر التي تقع أثناء تنفيذ مهمة إنقاذ أسير أو إفشال عملية أسر. وبعد أسابيع، ستتكشّف لجمهور العدو نتائج التحقيقات داخل كيان الاحتلال، وسيكون من المستحيل إخفاء حقيقة أن النيران الإسرائيلية، سواء التي أطلقها رجال الشرطة في مستوطنات غلاف غزة، أو القوات العسكرية التي استُقدمت على عجل، قتلت عدداً كبيراً جداً من المستوطنين داخل بيوتهم أو في مراكز احتجازهم لدى المقاومة. وبيّنت وقائع «عملية التوغل» شرق القطاع، فجر أمس، أن العدو أراد سحب عدد من جثث جنوده ومستوطنيه الذين قُتلوا أثناء نقلهم إلى غزة، عندما قصف العدو عشوائياً الشريط الفاصل بين القطاع والأراضي المحتلة عام 1948، ما تسبّب في سقوط عشرات الشهداء من المقاومين وأبناء القطاع الذين هرعوا إلى المستوطنات بعد سماعهم أخبار عملية «طوفان الأقصى».
خطط جيش الاحتلال لضرب المقاومة في غزة لا تتجاهل وجود الأسرى، لكنها لا تعتبرهم عنصراً محدّداً لبرنامج العمل. وحتى القوة الأميركية الخاصة التي تمّ استقدامها، والتي يقال إنها متخصّصة في «إنقاذ الرهائن»، تعمل على أفكار تتمحور حول توجيه ضربات إلى المقاومة. وبعدما أفاد المحتجزون الذين أطلقتهم المقاومة، علناً وفي تحقيقات الشاباك معهم، بأنهم كانوا احتُجزوا في أنفاق كتائب القسام، فإن قرار العدو باستخدام كثافة نارية مطلقة لتغطية أي توغل بري، سيتسبب بخسائر يُرجح أن تطاول الأسرى أيضاً. وهو ما دفع بقادة عسكريين إلى القول صراحة إنهم لا يضمنون استعادة كل الأسرى وهم أحياء.
أما ضغوط عائلات الأسرى، فلا تأثير لها على قرارات قيادة العدو. والجميع يعرف أن إسرائيل كلها اليوم في حالة تعبئة خلف قرار «سحق حماس»، ما يعني عملياً أن الكل في إسرائيل يدعم العملية البرية. وقد اختصر ضابط في جيش الاحتلال مهمته بالقول: «مطلوب منا إعادة الاعتبار إلى صورتنا أمام الجمهور. علينا إعادة الشرف إلى إسرائيل. ولذلك علينا هزيمة حماس لمرة أخيرة وإلى الأبد».
لكنّ المشكلة في إسرائيل، أنها مثلما بدت غير جاهزة للتعامل مع عملية نوعية وضخمة كالتي حصلت في 7 أكتوبر، لم تكن جاهزة لرد يتجاوز قتل المدنيين. وكل القساوة لا تعبّر فقط عن التقليد الإسرائيلي في الانتقام الوحشي، بل تعكس غياب العلاجات الفعلية لمعضلة الكيان. وعندما سارع قادة العدو إلى تجنيد الرأي العام داخلياً وخارجياً، رفعوا شعاراً يتجاوز قدرتهم على الفعل، بالقول إن هدف المعركة هو القضاء على حماس، إذ إن الرغبة شيء، والقدرة والكلفة شيء آخر. وربما ورّط العدو نفسه في فخّ العملية البرية، لأنه يعرف تماماً أن كل التدمير الذي يقوم به الآن، لا ينفع في معالجة أصل مشكلته، كما أنه لن يقدر على الاستمرار في هذا السلوك طويلاً.
الكلام الجدي بدأ عندما وُضع ملف الغزو البري على الطاولة. وهنا ظهرت الحسابات الدقيقة. لم يعد الأمر رهن رغبات انتقامية أو تغطية على إخفاق 7 أكتوبر، بل صار واجباً على إسرائيل أن تقدّم الخيار القابل للتحقّق. ولأن الحرب الكبيرة قابلة لأن تشعل المنطقة ككل، كان حضور الولايات المتحدة والغربيين. فجأة، قبل الإسرائيليون بالعودة إلى مرحلة الوصاية الغربية المباشرة، وعادوا إلى الوضعية التي يجلس فيها الأميركي على طاولة القرار، ليس بصفته مراقباً أو صديقاً، بل بصفة الشريك وصاحب القرار أيضاً. وفي الجانب العملاني، تحوّل الحضور الاستشاري الأميركي إلى دوام كامل، وتمّت الاستعانة بعشرات الجنرالات في الاستخبارات والقوات البرية وأذرعة سلاح الجو والمدرّعات والدفاع الجوي.
والنقاش الخاص بالعمل البري يأخذ في الاعتبار خصوصية قطاع غزة، لكنّ السيناريوهات المفترضة أوجبت استعادة نماذج من حروب المدن. فعاد هؤلاء إلى زمن الحرب العالمية الثانية (نموذج تدمير مدينة دريسدن الألمانية بغارات هائلة شنّها الطيران البريطاني والأميركي الذي دمّر المدينة وقتل 25 ألفاً من سكانها في عام 1945)، وإلى عام 2004 عندما خاض جيش الاحتلال الأميركي معركته الشهيرة في الفلوجة وواجه مقاومة ضارية، جعلت العدو يلجأ أيضاً إلى خيار القصف التدميري للمدينة. كما تمّت العودة إلى معركة استعادة مدينة الموصل من تنظيم داعش عام 2017، والتي استغرقت شهوراً عدة، وتخلّلها قصف مدفعي وجوي، قبل أن ينخرط نحو 85 ألف مقاتل من قوات الجيش والشرطة والحشد الشعبي والبيشمركة الكردية في المعركة. وتم تدمير جزء كبير من المدينة قبل السيطرة عليها في مواجهة أقل من سبعة آلاف مقاتل من تنظيم داعش… ووصل النقاش بين المستشارين إلى نموذج حصار بيروت عام 1982، عندما دكّ جيش الاحتلال المدينة بآلاف الأطنان من المتفجرات عبر الغارات الجوية والقصف المدفعي، بالتزامن مع حصار خانق أجبر منظمة التحرير على القبول بخروج مقاتليها من العاصمة اللبنانية.
كل هذه النماذج يناقشها الخبراء الأجانب مع قادة العدو. لكن، وبناءً على إصرار حكومة العدو على تحقيق هدف «سحق حماس»، فإن الشركاء في التخطيط والقرار، يحاولون تقديم تفسيرات متعددة لعملية «السحق»، بين «متطرفين» يعتقدون بإمكانية القضاء فعلياً على المقاومة، و«واقعيين» يعتقدون بأن المهمة تهدف إلى إضعاف «حماس»، ودفعها للقبول بتنازلات سياسية وغير سياسية، و«حذرين» يتصرفون وفق مبدأ «القضم»، ما يسمح في لحظة مناسبة بادّعاء الانتصار.
مشكلة قادة العدو أنهم يعملون وفي بالهم أن لحظة محاسبتهم على إخفاق «أكتوبر» آتية لا محالة. وهم يريدون تسجيل إنجاز لاستخدامه في الحصول على حكم مع أسباب تخفيفية. لكنّ المعركة لا تتحمّل إغراقها في حسابات داخلية، لا في إسرائيل نفسها ولا حتى في أميركا. وهو ما يعزز دور «المعنيين» من العسكريين في صياغة القرار.
وفق هذه القاعدة، يعتبر العدو أن أهدافه البديهية تكمن في الوصول إلى مرابض الصواريخ التي تصيب منطقة «غوش دان» وسط الكيان، والسيطرة على شريط داخل القطاع يمنع ضرب مستعمرات الغلاف. وفي مستوى آخر، يريد العدو الوصول إلى مواقع تمركز مجموعات المقاومة، سواء في أنفاق أو بين الركام، ولن يجد العدو حرجاً في استخدام كل ما يراه مناسباً لتحقيق الهدف، سواء باللجوء إلى القصف بالقذائف الخارقة للتحصينات تحت الأرض، أو اللجوء إلى غمر الأنفاق بالمياه أو حتى اللجوء إلى الغازات السامة، بالتزامن مع استخدام المدرّعات لتجريف كل العقبات العمرانية في طريق المشاة، في ظل تغطية نارية كثيفة من أسلحة الطيران والبوارج والمدفعية… ومع ذلك، يصعب الجزم بإمكانية تحقيق هذه الأهداف. أما إصرار العدو على حصد انتصار واضح، فيقود إلى توقّع مواجهة غير مسبوقة مع قوى المقاومة في القطاع… وربما خارجه أيضاً!