عودة إلى ما قبل التخدير: مستشفيات غزّة تحارب… بلا قلب
غزة | فيما ينحصر الحديث عن الواقع الصحّي في مستشفيات القطاع، في إطار التحذير المستمرّ من شحّ الوقود، والذي يهدّد بوقف العمل تماماً في أربعة مستشفيات رئيسيّة هي التي تتحمّل العبء الأكبر، بعدما خرجت 16 مستشفى ومؤسّسة صحية تماماً من الخدمة، تظلّ ظروف العمل القاسية التي يعيشها المصابون والأطباء على حدٍّ سواء، بعيدةً عن الضوء. وفي محاولة لمعاينة جانب من تلك الظروف، قامت «الأخبار» بجولة في مستشفى «الإندونيسي» في منطقة تل الزعتر شمالي قطاع غزة، وذلك في ليلة كانت شديدة القسوة، ارتكب فيها جيش الاحتلال 10 مجازر متزامنة، واضطرّت خلالها الطواقم الطبية المنهكة للتعاطي مع مئات المصابين والشهداء دفعة واحدة.
تصل الإصابات وأشلاء الشهداء مكدّسة في سيارات الإسعاف والسيارات المدنية، وحتى على العربات التي تجرّها الدواب، إلى المستشفى. أكثر من 500 مصاب وشهيد وصلوا في غضون بضع دقائق، فيما لا يتوفّر في قسم الطوارئ والاستقبال سوى 40 سريراً، ما يضطرّ الطاقم الطبي للتعاطي مع الحالات الأكثر خطورة، وإرجاء التعامل مع الإصابات المتوسطة إلى أن تسنح الفرصة. في الأثناء، تظلّ الأولوية لإنقاذ أكبر قدر ممكن من الأرواح، فيما تعلو أصوات المصابين الملقين على الأرض في الممرّات. هنا، لا برتوكول طبياً، والتعقيم في حدّه الأدنى، فيما أصبح معهوداً أن تُقطّب الجراح من دون تخدير، بل وأكثر من ذلك.
عاينت «الأخبار» وصول طفل لم يتجاوز العشر سنوات، وقد هشّم الركام الذي سقط عليه كلتا قدميه. أمسك به والداه، وثبّتاه على السرير ليبدأ الطبيب الجراح بتثبيت طرفَي الساق المُهشّمة بجسور «البلاتين». يبكي الطفل بصوت مبحوح، ثم يصرخ بكل طاقته. يدقّ الطبيب مسمار «البلاتين» الأول في أعلى الساق، وسيكرّر العملية ثلاث مرات أخرى، وأيضاً من دون تخدير. يعلو صراخ الطفل، ووالداه… «ليس في الإمكان أفضل من ذلك. نفدت حقن التخدير والمستهلكات الطبية. نعمل بما هو متاح بين أيدينا»، يقول الطبيب من دون أن يذرف دمعة، أو يرفّ له جفن. لقد اعتاد أداء هذه المهمة منذ أكثر من 20 يوماً. في غرفة تقطيب الجروح، يعلو الصراخ ذاته، بإمكان من يمرّ من جانبها أن يتخيّل ما يحدث. يغرزون الجراح أيضاً من دون تخدير، عشر غرز أو خمسين، لا فرق!
في ليل الجمعة – السبت، قصفت الطائرات الحربية مولّدات الكهرباء في مستشفيات «الشفاء» و«الوفاء» و«الإندونيسي»، ثم أعادت تخريب أنظمة الطاقة الشمسية المنصوبة فوق تلك المستشفيات والأبنية المحيطة بها، ثم أعادت الكرّة مرة ثالثة. كما قصفت بوابات مستشفى «القدس» في منطقة تل الهوا، والتي تؤوي إلى جانب مئات المرضى، أكثر من 12 ألفاً من النازحين، وبوابة مستشفى «الإندونيسي» التي تؤوي أكثر من 7 آلاف نازح. وفي خلال نهار السبت، قصفت الطائرات المعادية بوابة مستشفى «النصر» القريب من حي الشيخ رضوان، بعدما قصفت مساء الجمعة بوابة «الشفاء»
بالتوازي مع ذلك، أطلقت وزارة الصحة، أخيراً، إنذاراً بقرب توقف مولّدات المستشفيات العاملة في القطاع كافة، تماماً، بعدما تدخّلت المعجزات مراراً خلال الأسابيع الماضية لإبقائها عاملة، حيث قدّمت محطات الوقود الخاصة مخزونها كاملاً للمستشفيات تارة، ووصلت بعض شحنات الوقود المخزّنة من مؤسسات تجارية ومصانع تارة أخرى. كل خطوة من تلك، ساهمت في تأجيل الكارثة عدة أيام، غير أن كل ما هو مدّخر من الخطوات الترقيعية انتهى. ففي حين أعلن مستشفى «كمال عدوان» في شمال غزة أيضاً أنه فقد التيار الكهربائي تماماً، قام الأطباء بانتزاع بطاريات سياراتهم الخاصة، وأوصلوها بنظام الكهرباء البديل، كي تتوفّر الإنارة على الأقل. لكنّ أنظمة الطاقة الشمسية باتت لا تكفي بكلّ ما تولّده من كهرباء لتشغيل جهاز أشعة واحد.
مع ذلك، تتعنّت سلطات الاحتلال في إدخال الوقود ولو بشكل جزئي، فيما شحنات المساعدات لم يصل منها حتى اللحظة ما يكفي ليصنع فارقاً في المشهد. ووسط هذا كله، يقدّم المتحدث باسم وزارة الصحة، أشرف القدرة، إحصائيات تتصاعد يومياً عن قدر التأزم الذي يشهده القطاع الصحي: استشهد منذ بداية العدوان 150 كادراً صحياً، ودمّر الاحتلال 27 سيارة إسعاف، واستهدف 105 مؤسسات صحية ما بين مستشفيات وعيادات محلية ومخازن أدوية، كما أخرج 16 مستشفى عن العمل بشكل كامل، و32 مركز رعاية أولية، فيما سيتوقف «الإندونيسي» شمال مدينة غزة، و«الشفاء» غربها، عن العمل تماماً، بعدما اعتمدا على تشغيل المولّدات الثانوية أخيراً… وبالنتيجة، لا مناص من الكارثة.