اخبار عالمية
غزة محطة أميركية على طريق الهند
العميد الركن خالد حماده-اللواء
تتحول الحرب على غزة في شهرها الثاني إلى حرب أميركية على العالم العربي. الحرب أميركية ليس لأن واشنطن تضع أمن إسرائيل فوق كل اعتبار ولأنها مسؤولة عن إخفاق عملية السلام وعدم تطبيق الإتفاقات المعقودة تحت مظلتها، أو القرارات الدولية التي أصدرها مجلس الأمن لإنهاء الصراع في الشرق الأوسط، وليس لأنها لا تدفع باتّجاه وقف إطلاق النار وتتمسك بما أسمته حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، بل لأن الإدارة الأميركية هي البؤرة التي أخذت على عاتقها إنتاج كل صنوف التطرف في المنطقة، بدءاً بإرهاب الدولة الذي تمثله إسرائيل وانتهاءً بداعش مروراً بكافة النماذج المنتجة تسليحاً وتدريباً على مقاس المذاهب والدول وحيث تدعو الحاجة. لذلك تبدو واشنطن كضابط الإيقاع الذي يقف في الوقت عينه عند طرفيّ الصراع والقادر على إدارته وسط ضياع إقليمي وضع نفسه في خدمة المصالح الأميركية بصرف النظر عن العناوين المعلنة هنا أو هناك.
الحرب الدائرة على غزة هي الجولة الأولى في معركة تثبيت العلاقات الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط بالقوة، وقد أعطيت قيادة جولاتها المقبلة لوزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي يتقدم حشداً عسكرياً من حاملتي الطائرات «يو أس أس دوايت إيزنهاور» و «يو أس أس جيرالد فورد» وقد انضمت إليهما بالأمس الغواصة النووية «أوهايو»، بعد التحاق قطع بحرية فرنسية وبريطانية وألمانية شاءت حكوماتها أن تكون شاهدة على ولادة استعمار جديد وإن بطريقة بروتوكولية.
وبالتوازي مع الحرب الدائرة على غزة ينشط بلينكن في تفقد دول المنطقة، يزور إسرائيل للتأكيد على المعادلة المستحيلة «حاجة الولايات المتحدة لإنجاز في الميدان وعدم تعريض المدنيين للخطر»، ويزور «الحلفاء والأصدقاء» في كل دول المنطقة يجتمع بعربها وتركها ويراسل فرسها عبر وكلائهم لتسويق المجزرة المستمرة، وشرح مسوغات الموقف الأميركي. يتحدث بلينكن من موقع الممسك بمفاصل ونقاط الضعف لدى كل من مستقبليه محذراً من توسيع رقعة الحرب ومن التعرض للمصالح الأميركية وملوحاً باستعمال القوة المفرطة لحمايتها، فيما لا يجد محاوروه أمام هول التدمير والقتل سوى المطالبة بوقف لإطلاق النار يبدو أنه صعب المنال.
الحشد الأميركي غير المسبوق ليس لقلب ميزان القوى لصالح إسرائيل أو لردع حزب الله من توسيع نطاق المعارك التي يبدو أنها تدار بعناية فائقة وتلتزم خطوطاً رسمت بدقة، بل لاستكمال تحقيق الأهداف الأميركية بعد إخضاع غزة التي تمثل النموذج لما يمكن أن يحصل في كل العواصم، حيث لا محاذير ولا ضوابط تحول دون تدمير المستشفيات والجامعات والأبراج السكنية وكل ما يعتقده العقل الأميركي أنه نتاج الحضارة الغربية التي يتبوأ قمّتها حتى إشعار آخر.
لقد استشعرت الولايات المتحدة خطر الصعود الإقتصادي والتقني وتراكم الثروة الذي حققته المنطقة العربية لا سيما دول الخليج العربي التي لم تستدرج الى متاهات الربيع العربي، ولم ترضخ لإختراقات الإسلام السياسي الذي تولت واشنطن إدارة عملياته منذ العام 2010 في تونس ومصر وليبيا والبحرين وسوريا وتركيا. وقد ارتفعت درجة التوجس الأميركي بعد التقارب الصيني والروسي مع دول الخليج العربي وتوقيع العديد من الإتفاقات ذات الطابع الاستراتيجي في مجالات عدة، وبعد التماسك الذي أبدته دول الخليج في إدارة أزمة الطاقة خلال الحرب الروسية الأوكرانية وعدم الإنصياع للإرادة الأميركية، وربما بعد الإتفاق السعودي الإيراني الذي رعته الصين. وقد أدت رغبة كل من السعودية ومصر ودولة الإمارات بالإنضمام الى منظمة «بريكس» بلوغ القلق الأميركي مستويات حرجة.
لقد مثّل مشروع طريق الهند نحو أوروبا عبر دولة الإمارات العربية المتحدة والسعودية وإسرائيل الذي سارعت الولايات المتحدة الى إقراره خلال قمّة العشرين الأخيرة، بمثابة الرد الاميركي على الدول التي تمردت على إرادة واشنطن في الإقتصاد والسياسة والطاقة. كما بدت الإندفاعة الأميركية التي استتبعته في تسريع وتيرة التطبيع بين السعودية وإسرائيل مرتجلة وفاقدة للنضوج لا سيما بعد أن ربطت المملكة ذلك بحل القضية الفلسطينية وفقاً لمبادرة القمّة العربية في بيروت 2002، وعبّرت في الوقت عينه عن رغبة أميركية واضحة في قلب الطاولة.
تبدو غزة كمحطة إلزامية على طريق الهند ويبدو إخضاعها اختباراً تحتاج واشنطن لإجتيازه بنجاح، وبهذا المعنى تبدو الحرب على غزة وكأنها الجولة الأولى في مسار أميركي لإحكام السيطرة على المنطقة التي يراد لدولها أن تعيش رهاب غزة.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات