الثقة بالمقاومة
الحرب التي قرّر شنّها كلّ من نتنياهو وبايدن على المدنيين والعمران في قطاع غزة، مضيا فيها، بانتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، ولأعراف الحرب المتفق عليها، وقد اتّسمت بمجزرة متواصلة، ليل نهار، في قتل أقصى ما أمكن من الرجال والنساء والكهول والأطفال، وفي تدمير ما أمكن من أحياء كاملة، سوّيت بالأرض. وقد هدمت منازل مسكونة، ومدارس أصبحت ملاجئ لعشرات الآلاف، فضلاً عن المساجد والكنائس والمستشفيات. هذه الحرب التي أُعلن بأنها حصدت حوالي ١١ ألف شهيد (بينهم خمسة آلاف طفل)، و٢٩ ألف جريح، وآلاف لا يزالون تحت الأنقاض، واستخدمت فيها القنابل الفوسفورية المحرّمة دولياً… هذه الحرب وصلت الآن، لتصبح حرباً معلنة مباشرة ضد المستشفيات، مع تركيز خاص على مشفى مجمع الشفاء.
وهنا يجب أن ترفع الإدارة الأميركية، والحكومات الأوروبية رؤوس الغرب عالية بارتكاب جرائم حرب، علناً ضدّ المستشفيات، وضدّ من فيها من كوادر طبية (أطباء ومعالجين وعاملين)، ومن فيها من آلاف الجرحى وعشرات الآلاف من طالبي النجاة من القصف والقتل.
وبالمناسبة، حُرّم انتهاك المستشفيات بالاسم في اتفاقيات جنيف الرابعة الخاصة بالقانون الدولي في الحرب.
صحيح أن المجزرة المتواصلة، ليل نهار طوال 36 يوماً، ضد المدنيين، ألحقت بالشعب الفلسطيني في قطاع غزة من القتل والدمار والآلام ما لا يوصف، وما لا مثيل له، وصحيح أن الشعب الفلسطيني بأسره، عدا سلطة رام الله وقيادتها، لم يعرف النوم، وهو ينظر إلى ما يحدث في قطاع غزة، وكذلك عشرات الملايين، وأكثر، من العرب والمسلمين، وأصحاب الضمائر في العالم، والكل يصرخ: أوقفوا هذه المجزرة الإجرامية الوحشية. وقامت تظاهرات يومية، ومجموعها بالملايين، وفي كل عواصم العالم تدين، وتضغط لوقفها أيضاً، وهناك أكثرية غالبة من دول العالم طالبت، من خلال الجمعية العامة، بوقف المجزرة الاستثنائية في قسوتها… ولكن، لا تزال أميركا تعلن أنها لا تريد وقف الحرب، ولا يزال نتنياهو مصمماً على المضيّ بها إلى ما لا نهاية.
هذا كله صحيح، ولكن يجب أن نلحظ أنه بوصول الحرب ضد المدنيين إلى حرب ضد المستشفيات، علناً وبتحدٍّ للعالم كله، مقرونة بالحرمان من الطعام والمياه والدواء، تكون قد شارفت على نهايتها. لأن الوصول إلى وقف المجزرة ضد المدنيين والعمران يحتاج، كما أظهر بايدن والغرب إلى الارتفاع بمستوى التقتيل والإبادة، وانتهاكات القوانين الدولية، إلى مستويات تتعدّى ما وصلته، حتى الآن، بل أكثر وأكثر، إذا لم تتوقف.
أي لا بدّ من الحماقة المطلقة، والجنون المطبق، والوصول بالحرب الإجرامية التي شنّها نتنياهو وبايدن على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، إلى المستوى القياسي غير المعهود في القتل الجماعي والفضيحة الأخلاقية. وهذا ما تؤكده التجربة الواقعية منذ 36 يوماً. يعني أن الكيل بالنسبة إليهما يجب أن يطفح، بمزيد ومزيد، بسفك الدم وبانتهاك القانون الدولي، وبتحدي الضمير العالمي حتى يذعنا، لوقف حرب الإبادة، ضد مدنيّي قطاع غزة.
على أن الوجه الذي سيحسم الحرب، هو المقاومة ومعاركها مع الجيش الصهيوني، في ما سمّي الحرب البريّة.
أبرز تقدير الموقف السابق، ما تتمتع به المقاومة التي يقودها محمد ضيف (أبو خالد) وإخوانه، من مزايا ستقود إلى الانتصار على جيش العدوان البرّي. وقد تأكد ذلك من جديد ليلة الجمعة/ السبت، ويوم السبت، بطوله في 11 تشرين الثاني 2023. وذلك من خلال عدة دلائل ميدانية، أظهرت أن المقاومة هي التي تملك اليد العليا. وهذا يفسّر تصاعد قصف المدنيين، ليلة السبت/ الأحد، واستمراره صباح الأحد 12 تشرين الثاني/ نوفمبر.
لقد حدثت خلال الأيام الثلاثة الأخيرة عدة اختراقات اعتبرها البعض “خطيرة”، وصلت إلى عدد من النقاط في شمال غرب غزة، وفي الجنوب، وصولاً إلى الاقتراب من مستشفى الشفاء. وقد أدت إلى اهتزاز معنويات كثيرين، لتضاف إلى أهوال مشاهد قتل الأطفال واتساع الدمار. ولكن المقاومة، كما صرّح أبو عبيدة راحت تتصدّى، في خمسة مواقع، في آن واحد، وفي اشتباكات صفرية، مع دبابات العدو، ومع تسلل من جنوده، إلى بعض البنايات المهدمة، التي جعلتهم تحت مرمى النيران.
دامت الاشتباكات طوال ليل الجمعة/ السبت، وطوال يوم السبت، وقد لخّص أبو عبيدة الوضع قائلاً: “الدبابات التي تتقدم فوق الدمار تواجَه بمقاومة عنيفة، تجبر الاحتلال على تغيير مسارات تقدمه”. وأضاف “دمرنا 25 آلية خلال الساعات الـ 48 الأخيرة”. ليصبح ما دُمر من آليات عسكرية 160 دبابة وآلية، منذ 7 أكتوبر.
وخلاصة، إن المقاومة بقيادتها وكامل جسمها وأجنحتها (كتائب عز الدين القسّام، وسرايا القدس وآخرون) لا تزال، وستبقى إن شاء الله، معافاة وجاهزة لكيل الصاع صاعين، وامتلاك زمام المبادرة في التصدي لكل اختراق يحدثه العدو، الأمر الذي يفترض أن تبدّد الأوهام التي تثبط المعنويات مع كل تقدم للدبابات. أو تبالغ بكل تغيّر في جغرافية توزع قوات العدو، وهو يقتحم القطاع. وذلك من دون الانتباه إلى المقاومة التي تحوّل كل اختراق إلى فخ.
هذا الدرس، يجب أن يعلمنا الثقة بالمقاومة، في مرحلة الدفاع الإيجابي، كما كانت الثقة قوية جداً، ونحن نعيش أيام 7 و8، و9 أكتوبر.
عندما يشارك المرء (الفلسطيني، بخاصة) وهو في الجبهة الخلفية، في حرب يخوضها شعبه ومقاومته، عليه أن يعتبر نفسه جزءاً من الحرب، كما لو كان في الخطوط الأمامية، فلا يسمح للحظة، ومهما تقلبت جغرافيا الميدان، بأن تتزعزع ثقته بوحدة الموقف، أو تتضعضع معنوياته، سيّان في مرحلة الدفاع، كما في مرحلة الهجوم. وإن لم يفعل كذلك، ودخل غراب النحس والتشاؤم في موقفه، وتقديره للموقف فسيخذل نفسه، ويخذل جبهته.
عندما تدخل الحرب، وإن كنت مشاركاً من بعيد، يجب أن تبقى واثقاً بالنصر ما دام السلاح مرفوعاً.
*كاتب وسياسي فلسطيني