غسان سلامة: الفتى الفلسطيني الذي عَبر، طعن الردع الإسرائيلي في الصميم
بايدن قد يخسر الانتخابات بسبب دعمه المطلق لإسرائيل
غسان سلامة، المفكر والأستاذ الجامعي ووزير الثقافة اللبناني الأسبق، والذي رأس بعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا بين عامَي 2017 و2020، هو بين قلّة من خبراء العلاقات الدولية الذين توقّعوا تمرُّد الواقع العالمي، بتناقضاته الظاهرة وتلك الكامنة، على مشاريع السيطرة والتحكّم الإمبراطورية. هو اعتبر، في مقابلة سابقة مع «الأخبار»، في الأول من أيلول 2021، أن الانسحاب الأميركي من أفغانستان، يشكّل محطّة مهمّة في مسار أفول مركزية حضارة الرجل الأبيض. وهو يقدّم، اليوم، لـ«الأخبار»، قراءته لِما تعكسه معركة غزة من اتجاهات عميقة وتحوّلات يشهدها الإقليم والعالم، تعزّز جميعها فرضية أن الأفول الذي أشار إليه، آخذ في التسارع.
الانحياز الأميركي والأوروبي إلى إسرائيل قديم ومعروف، ولكنّنا شهدنا هذه المرّة، إضافةً إلى حشد الأساطيل دعماً لإسرائيل، تماهياً كاملاً مع مواقفها ورفضاً متكرّراً لوقف إطلاق النار وتبريراً لاستهدافها للمستشفيات. ما هي خلفيات هذا التماهي غير المسبوق؟
– أعتقد أنه يجب النظر بدقّة إلى أحوال الغرب بتنوّعه، والتمييز بين ما يحصل في أميركا، وما يجري في أوروبا. في أميركا، لدينا رئيس، منذ أن كان عضواً في مجلس الشيوخ ثمّ رئيساً للجنة الشؤون الخارجية فيه، ولاحقاً نائباً لرئيس الدولة أيام أوباما، وأخيراً رئيساً، تميّز دوماً بالتأييد المطلَق لإسرائيل. من المعروف أن اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة يتابع من كثب مدى تأييد أيّ عضو في الكونغرس للقوانين الداعمة لإسرائيل سنوياً. وبايدن من الشخصيات التي حازت دائماً رضاه. عندما وقع هجوم السابع من تشرين الأول، كان الرئيس الأميركي في حالة من التناقض الذاتي، فهو حاول من جهة، في ثلاث سنوات، الابتعاد عن الشرق الأوسط، والتركيز على آسيا، وتحديداً الصين. وحرفته «مصيبة» أوكرانيا عن هذا التركيز إلى حدّ كبير، وأتت «مصيبة» غزة لتحرفه في اتّجاه آخر أيضاً. هو سعى لكي لا ينخرط على غرار سابقَيه كلينتون وأوباما في أيّ مشروع في الشرق الأوسط يعتقد أنه لا يستطيع تحقيقه. ومن جهة أخرى، وعلى المستوى الوجداني والتاريخي، هو مؤيّد مطلق للسياسة الإسرائيلية. لذلك، هو قام باحتضان رئاسي «عفوي» لإسرائيل، واتّخذ قراراً بزيارتها في الأسبوع الأول للحرب، متجاوزاً عداءه الشخصي لنتنياهو، ليشترك في نقاشات «كابينيت» الحرب الإسرائيلي حول ما ينبغي القيام به في غزة. وهو سمع من العسكريين الموجودين في «الكابينيت»، كوزير الأمن يوآف غالانت، وغادي آيزنكوت، وبيني غانتس، أن المطلوب هو استعادة إسرائيل قدرتها الردعية. يومها، طرح غالانت فكرة مفادها بأن العالم أجمع يَنتظر ردّ فعل إسرائيل في غزة، وبالتالي، هي لن تستعيد قدرتها الرادعة إنْ باشرت في عملية عسكرية هناك، مقترحاً أن تبدأ العملية العسكرية في مكان آخر، كلبنان مثلاً. آنذاك، اضطرّ بايدن لاتخاذ موقف واضح ضدّ توسيع الحرب، وأرسل حاملتَي الطائرات «جيرالد فورد» «ودوايت آيزنهاور» لطمأنة إسرائيل إلى أن الولايات المتحدة ستتكفّل بردع القوى المعادية لها في المنطقة. هناك اعتبار آخر حكم موقف بايدن، وهو أن إسرائيل عاجزة عن خوض حربَين في الآن نفسه، وفقاً لتقدير العسكريين الأميركيين. تورّطت إدارة بايدن في الحرب، ولكن الرأي العام الأميركي كان في موضع آخر. وقد تبيّن، مثلاً، أن 60% من أعضاء الحزب الديموقراطي، لا سيما الشباب، وكثير منهم يهود، يعترضون على هذه السياسة الحاضنة لإسرائيل، ويَعتبرون أن تعامل بايدن مع هذا الصراع غير مقبول بالنسبة إليهم. المفاجأة هي أن الحزب الديموقراطي لا يسير خلف رئيسه كما اعتقد هذا الأخير، وجزء كبير منه لم يَعُد يؤيّده، وقد ينجم عن ذلك عدم فوزه بفترة رئاسية ثانية.
بماذا يختلف الوضع في أوروبا عن ذلك السائد في الولايات المتحدة؟
– في أوروبا حصل خلط «مرعب» لم أرَه منذ 50 عاماً، منذ أن وصلت إليها في عام 1973، بين ثلاث مسائل مختلفة. المسألة الأولى هي الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، والثانية معاداة السامية، والثالثة مسألة الهجرة الإسلامية إلى أوروبا. الخلط المتعمَّد بين هذه المسائل، سوّغ تبنّي اليمين المتطرّف موقفاً معادياً للفلسطينيين، ومكّنه من جرّ يمين الوسط إليه. وأدى ذلك إلى نتائج كارثية بالنسبة إلى ما يُسمح بقوله في الإعلام، بحيث يُتّهم أيّ شخص يحاول الفصل بين هذه المسائل، بمعاداة السامية. في الواقع، هناك انزلاق شبه شامل في أوروبا نحو موقف عدائي من العرب والمسلمين. والحكومات تتأثّر بما تعتقد أنه الرأي العام، رغم أنّها تسهم في صياغته من دون أن تعترف بذلك. نحن نشهد تكراراً لِما حصل في أوكرانيا. فإذا أشار أحدهم إلى أسباب قد تفسّر ما حصل في 7 أكتوبر، ودعا إلى البحث عمّا جرى فعلاً، وعن عدد الأطفال والأولاد الذين قتلوا، وكيف تمّ التعامل مع الرهائن، وتناول مصير الـ8 آلاف سجين فلسطيني، هناك مَن سيردّ عليه بأنّ هذه القضايا جميعها «ليست على جدول الأعمال»، والمطروح هو فقط التنديد بما قامت به «حماس». هناك انزلاق نحو الرأي الواحد المعادي للعرب والمسلمين، في الحكومات كما في المجتمعات.
المشهد الدولي الحالي، ومن أبرز سماته، تشكّل «غرب جماعي» يتّخذ موقفاً موحّداً في مقابل «الآخرين»، أي بقية دول العالم غير الغربي، كما كشفت حربا أوكرانيا وغزة، ألا يتطابق كثيراً مع تنبؤات هانتينغتون عن «صراع الحضارات»؟
– جزئياً. هناك تراكم لمتغيّرات وصلت إلى حدّها الأقصى، وربّما ستتجاوزه مع حرب غزة. ثمّة أولاً شعور بانحسار نفوذ الغرب على العالم. اكتشف الغربيون ثلاث حقائق: الأولى هي أنّ حركة العولمة التي أطلقها الغرب استفادت منها دول كثيرة، أهمها الصين، ولكن أيضاً الهند وفييتنام وغيرها، من دون أن تتبنّى بالضرورة مؤسّسات الغرب ونظمه السياسية والاقتصادية. بمعنى آخر، استفادت هذه الدول من العولمة وتطوّرت من دون أن تتّخذ المنحى السياسي الذي يريده الغرب. بل على العكس، نشأت إجمالاً، ولا سيما في الصين، رأسمالية دولة نشيطة وفعّالة تمكّنت من انتشال مئات الملايين من الصينيين من تحت خط الفقر، من دون أن يتغيّر نظامها السياسي، بل إنّ الأخير زاد من سلطويته في المدة الأخيرة. يعني ذلك أنّ الرهان السائد في الغرب، أو ما يسمّى «إجماع واشنطن»، على أنّ النمو الاقتصادي يؤدي إلى نشوء طبقة وسطى تطالب بالمشاركة في الحياة السياسية على الطريقة الغربية، قد فشل. أدرك الغرب نتيجةً لهذا التطوّر، انحسار نفوذه. الحقيقة الثانية، هي أن روسيا، الدولة التي لم يكن الغرب يحسب لها حساباً، لأنّ اقتصادها وفقاً للاعتقاد الغربي السائد، يعتمد أساساً على النفط، ما حدا بالبعض إلى اعتبارها «سعودية مع سلاح نووي»، أثبتت أنها لاعب قوي في أوروبا. ففي عامَي 2014 و2022، اتّضح أنها قادرة على ضمّ القرم ومهاجمة أوكرانيا، وأيضاً التدخل في جورجيا قبل ذلك التاريخ، وأن تتحالف إلى حدّ كبير مع دول مثل الصين وإيران. أيقن الغربيون أنها لاعب إستراتيجي في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا، بخاصة في دول الساحل، حيث تراجع النفوذ العسكري والأمني الفرنسي في السنوات الثلاث الماضية، في بلدان كالنيجر وبوركينا فاسو ومالي، وحلّ محلّه النفوذ الروسي، عبر شركة «فاغنر». وجاءت الحقيقة الثالثة لتظهر أنّ هناك في الشرق الأوسط قوى غير حكومية عسكرية، مثل «حزب الله» و«حماس» و«الحشد الشعبي» و«الحوثيين»، لديها قدرة على تحدّي ما يسمّى «القوة العسكرية الرابعة في العالم»، أي إسرائيل. وإذا كنت غربيّاً، ستستنتج بأن العولمة لم تَعُد لمصلحتك، وأنّ دور روسيا لم يتراجع لا في أوروبا ولا في أماكن أخرى، وأنّ حليفتك الرئيسية في الشرق الأوسط، إسرائيل، لم تَعُد لديها القدرة على ردع خصومها كما كانت تفعل مع الجيوش النظامية العربية في الماضي حتى عام 1973، وبأنّ امتلاكها لعشرات الرؤوس النووية لا ينفع مع هذا النوع الجديد من التحدّي الذي تواجهه. نظرية هانتينغتون الثقافية عن صراع الحضارات قابلة للنقد بسهولة، لأسباب عديدة أذكرها في كتابي المقبل بالتفصيل. غير أنّ فكره السياسي والعسكري ينبغي التوقّف عنده. فهو توصّل إلى استنتاج مماثل لما نقوله الآن: هناك انحسار للنفوذ الغربي في العالم. نصيحته للغربيين هي أن يتوحّدوا حول «حلف شمال الأطلسي»، وأن يكفّوا عن محاولة نشر أفكارهم وأنظمتهم وقوانينهم وقيمهم في أنحاء العالم الأخرى، لأنّ هذه العملية مكلفة وغير مجزية. التقيت هانتينغتون مرتين في دافوس، في 1994و2004. في المرة الأولى، وكنّا مع المرحومة بيناظير بوتو، اختلفنا حول الأساس الثقافوي لنظريته، ولكنّنا في المرة الثانية تقاطعنا حول قراءة المشهد الجيوسياسي العالمي.
ما هي التداعيات المستقبلية لعملية «طوفان الأقصى» على إسرائيل؟
– هناك نقاش لا ينتهي بين اليهود حول هذه التداعيات، ولكن، ولسوء الحظ، لا يجرؤ الغربيون على الاقتراب من هذا النقاش. النقطة الأولى تتعلّق بالتساؤل حول كون إسرائيل ملاذاً لليهود، إذا كان يمكن اختراق ردعها كما حصل في عام 2006، وكما حصل بصورة أوضح عام 2023، وإذا لم تَعُد قادرة على الحفاظ على الأساس الذي قامت عليه، وهو أن الحرب يجب أن تدور دائماً على أرض الآخرين، فإنّ شيئاً عظيماً قد انكسر في السابع من تشرين الأول. إذا كنت مضطراً للقتال على أرضي وليس عند الآخر، فإنّ فكرة الملاذ تُضرب في الصميم. وإذا كنت محتاجاً إلى الأساطيل الأميركية للمرّة الأولى منذ إنشاء الدولة، ويعني ذلك أنّ مَن يقوم بالردع هو الأميركي، فأنا أثبت تماماً عكس ما أزعمه، لأنني ألجأ إلى طرف آخر لحمايتي. النقطة الثالثة هي كلفة الملاذ المزعوم. أميركا أعطت مساعدات عسكرية لإسرائيل بقيمة 130 مليار دولار منذ إنشاء الكيان، وما زالت تقدّم لها 4 مليارات دولار سنوياً، وأقرّت مؤخراً 15 ملياراً إضافية. هذه الكلفة ستزيد بالضرورة في المستقبل. مَن يريد ملاذاً آمناً يرغب أيضاً في أن يكون محدود الكلفة، لا أن تكون كلفته لامتناهية. كل هذه الأسئلة مطروحة الآن. هناك سؤال أهمّ مرتبط بحقيقة أنّ مَن وصل في مطلع التسعينيات إلى استنتاج مفاده ضرورة القيام بنوع من الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني، أي «حزب العمل»، خسر كل الانتخابات منذ ذلك التاريخ، باستثناء المرّة اليتيمة التي وصل فيها إيهود باراك إلى السلطة، سنة 1999. إضافة إلى ذلك، فإنّ إسحاق رابين الذي أشرف على هذا التحوّل في مواقف «حزب العمل»، اغتيل سنة 1995، من دون أن يبكيه أحد تقريباً. كلّ مرّة تألفت فيها حكومة إسرائيلية، في العقود الثلاثة الماضية، تعنون الصحف بأنها الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل. إلى أين المآل؟ هناك مشروع لاستيطان الضفة وضمّها، وهذا المشروع يعني العودة إلى فكر جابوتنسكي. والرجل الذي اتّهمته أرملة رابين بالمسؤولية عن قتل زوجها، أي نتنياهو، أصبح رئيساً لحكومات إسرائيل لـ14 عاماً. نحن لم نأخذ العبرة من ذلك، وهي أن هناك أطرافاً في إسرائيل قوية إلى درجة معاقبة كل مَن يقترب من المقاربة الواقعية، أو يبتعد ولو قليلاً عن مشروع إسرائيل الكبرى. ولكن هناك وعي يتشكّل في داخل الكيان بأنّ هذا المشروع يحمل الإسرائيليين إلى وادي التهلكة. الحرب في غزة والعين على الجبهة اللبنانية، ولكن جوهر الصراع في الضفة، حيث هناك إمكانية إمّا لاستمرار مشروع إسرائيل الكبرى أو انكساره. واستمراره سيعني حالة حرب مستدامة في المنطقة في السنوات المقبلة. أمّا إذا كُسر هذا المشروع، فسيتسبّب ذلك بإحباط كبير لأنصاره في داخل الكيان. لكن ما لا شكّ فيه، هو أنّ الفتى الفلسطيني الذي عبر من غزة إلى سديروت، ضرب عقيدة الردع الإسرائيلية في الصميم.
المفكر والأستاذ الجامعي ووزير الثقافة اللبناني الأسبق