إرث كيسنجر الأهمّ: التفاوض… وعدم “كسر” أحد
رضوان السيد -أساس ميديا |
ماذا يفيد الاهتمام بهنري كيسنجر الآن؟
في عام 2022-2023 تصاعد الاهتمام بمستشار الأمن القومي الأميركي ووزير الخارجية (1972-1977) في خمس مناسبات:
– صدور كتاب له بعنوان: “القيادة والقادة”.
– وصدور كتاب عنه لمارتن إنديك.
– وبلوغه المئة.
– وزيارته قبل ثلاثة أشهر الصين للمرّة الأخيرة.
– ووفاته قبل أيام.
بالطبع في كلّ هذه المناسبات كان الحديث عن الإنجازات التي حقّقها وأهمّها اثنان:
– إقامة علاقات بين الولايات المتحدة والصين (1972-1973).
– ومفاوضاته من أجل سلامٍ في الشرق الأوسط (1973-1977).
جاء كيسنجر من خلفية أكاديمية. فقد درس في جامعة هارفرد ودرّس فيها، وكتب أطروحته عن السلام الأوروبي بين هزيمة نابليون (1814) وثورات 1848 وبروز شخصية مترنيخ، المستشار النمساوي، الذي أعاد بأسلوبه في التفاوض وأهدافه (الواقعية) الهدوء إلى القارّة العجوز بعد عاصفة نابليون بونابرت.
نموذج كيسنجر ينطلق في عمقه من دراسة العمل السياسي الدبلوماسي الذي قام به مترنيخ وليس الترتيبات التي شهدها العالم بعد عام 1945. وكلامه عن السياسة (الواقعية) ناجم عن المصطلح الألماني: Real Politik الذي يعني ثلاثة أمور:
– الاعتراف المبدئي بسائر الأطراف الحاضرة في المشهد سواء أكانت مؤثّرة جداً أو غير مؤثّرة.
– عدم السعي إلى تحقيق أهداف جذرية، ولو كان المقصود نشر السلام النهائي.
– وتجنّب الملل أو اليأس، ولو تكرّر الفشل في عمليات التفاوض.
“ابن” القرن الـ19… و”يهوديّة” القرن العشرين
كتب كيسنجر عشرات الكتب، وتكرّر فيها دائماً نموذج مترنيخ. والطريف أنّ هناك فارقاً كبيراً بين الوضع بعد الحروب النابليونيّة والوضع بعد الحرب العالمية الثانية. ففي الحالة الأولى ما كانت الإمبراطورية النمساوية هي القوّة الرئيسية في أوروبا بعد حروب نابليون، بل كانت ثالثةً أو رابعةً بعد إنكلترا وبروسيا وروسيا. بينما في عصر كيسنجر كانت الولايات المتحدة الأميركية هي القوة الرئيسية في العالم من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية. لكنّ هذا الفارق أو الواقع لم يدفع كيسنجر للاقتناع بإمكان سيطرة الولايات المتحدة على العالم بالقوّتين المتوافرتين لها. وظلّ التفاوض هو القدرة الفائقة التي آمن بها وعمل عليها، سواء في تفكيره أو في عمله الدبلوماسي.
ما كان هو صاحب أطروحة “القوة الناعمة”، بل زميله الأصغر جوزف ناي في تسعينيات القرن العشرين (1994). لكنّ قدرات وإمكانيات القوة الناعمة للولايات المتحدة هي التي حكمت، كما سبق القول، تفكيره وتصرّفاته.
هنري كيسنجر هو ابن عائلةٍ يهوديّةٍ هاجرت إلى الولايات المتحدة عام 1937 وشهد أو شاهد الهولوكوست من بعيد. وعندما عاد في شبابه إلى ألمانيا مع الجيوش الأميركية لتنظيم استسلام ألمانيا المهزومة، كانت وجهة نظره (وما كان مؤثّراً على أيّ حال) منذ ذلك الزمان عدم إذلال ألمانيا بل استخدامها بعد الترميم في التوازن بوسط أوروبا في مواجهة الاتحاد السوفيتي، القوة الثانية في المجال العالمي آنذاك.
الالتفاف على السوفيت… من الصين
لنعد إلى تجربتَي النجاح في حياته السياسية والدبلوماسية.
مع الصين بدأ التواصل السرّي على مشارف الخروج الأميركي الخائب من حرب فيتنام (1963-1975). فقد شهد كيسنجر على إرادة الصين إخماد الحرب بالتفاوض. في حين كان الروس يريدون استمرارها للمزيد من إذلال أميركا. ومع اتّضاح الهزيمة أُنجزت في الاستراتيجية الأميركية خطط لتخفيف الوقع على الداخل الأميركي، وخطط أُخرى للانتقام من الاتحاد السوفيتي. ومن هذه الناحية اكتشف الأميركيون بوزارتَي الخارجية والدفاع ومجلس الأمن القومي، أنّ العلاقات بين الصين وروسيا ليست على ما يُرام، ويمكن استغلال ذلك إذا أمكن إقناع القيادة الصينية بنوعٍ من العلاقات مع الولايات المتحدة.
ما كانت الاتصالات بالطبع مع ماوتسي تونغ بل مع شوإن لاي رجل التفاوض في النظام الصيني. وعندما قبل شوإن لاي توجيه دعوةٍ للرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون لزيارة الصين، ما كان الأميركيون يأملون إمكان الحديث بين ماوتسي تونغ ونيكسون. لذلك تردّد الرئيس الأميركي على الرغم من استحثاث كيسنجر، وتحدّد هدفان للزيارة:
– التفاوض على الخروج من فيتنام وكانت الصين وسيطاً.
– والتبادل التجاري والعلمي.
لكن في اليوم الثاني لوصول نيكسون ومعه كيسنجر إلى بكين، تحدّد له موعدٌ مع ماوتسي تونغ، وكانت العقبة الكأداء في العلاقات قضية تايوان. لكنّ ماوتسي تونغ في المحادثات سهّل الأمر بأن ذكر لنيكسون أنّ المسألة يمكن إيجاد حلٍّ لها فيما بعد، إنّما على الولايات المتحدة الاعتراف بالصين الواحدة، في مقابل تعهّد الصين بعدم اللجوء إلى القوة في الضمّ. وكسبت الصين في المجالات الأخرى كلّها، بينما كسبت أميركا في إبعاد الصين التدريجي عن روسيا. فاتّجهت الولايات المتحدة لمصارعة روسيا في كلّ مكان، وبخاصّةٍ بعد التدخّل الروسي في أفغانستان عام 1979. يومها كان كيسنجر قد أُبعد عن المناصب في عهد الرئيس جيمي كارتر، لكنّ مدرسته ظلّت في وزارة الخارجية وساعدت في الحرب غير المباشرة على روسيا، ويقال إنّه ما كان من أنصار التدخّل، بل ترْك روسيا تغرق في مستنقع بلادٍ ما استطاع الإنكليز ولا الروس احتلالها طوال مئتي عام.
الإنجاز العربيّ – الإسرائيليّ التاريخيّ
كان مجال الإنجاز الثاني البارز لكيسنجر في الشرق الأوسط. فقد فاجأ المصريون والسوريون إسرائيل بالهجوم في مطالع تشرين الأول 1973. كانت النشوة ما تزال تخالج الإسرائيليين منذ انتصارهم الكبير في حرب عام 1967 واحتلالهم سيناء والجولان والضفة الغربية والقدس. وما صدّقوا ومعهم الأميركيون أنّه بإمكان المصريين فضلاً عن السوريين مهاجمتهم بعد هذه الفترة القصيرة وقد حصل دمارٌ كبيرٌ في جيوشهم عام 1967. لكنّهم هاجموا وتقدّموا خلال الأيام العشرة الأولى للحرب.
وقد أرعب الإسرائيليين أمران:
– المفاجأة الاستراتيجية التي لم يستعدّوا لها ولم يتوقّعوها.
– والتقدّم المذهل الذي ما استطاعوا إيقافه على الرغم من حشدهم الهائل وأسلحتهم المتقدّمة.
منذ اليوم الثالث للحرب استغاثت رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير بالولايات المتحدة. وما صدّق الرئيس نيكسون تهويل الإسرائيليين، لكنّه في اليوم الخامس وبدفعٍ من كيسنجر وسائر الأجهزة أمر بإنشاء خطٍّ الإمداد الكثيف لإسرائيل الذي لم يتراجع إلّا بعد إحداث “الدفرسوار”، وتوقيف التقدّمين المصري والسوري.
مع أنّ الإسرائيليين انصرفوا لمحاسبة قادتهم وأجهزتهم على الإهمال والاستخفاف والجبن في الأيام الأولى للحرب، فإنّهم لم يكونوا على استعداد أبداً للتفاوض والتنازل مدفوعين بالرأي العامّ الإسرائيلي وبإمكان الثأر من المصريين والسوريين، وتجديد ذكريات 1967. وقد كان ذلك عكس ما سعى إليه كيسنجر، وبخاصّةٍ أنّه صار المسؤول شبه الوحيد عن السياسة الخارجية الأميركية بعد انهماك واستنزاف الرئيس نيكسون بفضيحة ووترغيت (1973).
كان دافعُ كيسنجر الرئيس، بحسب مذكّراته، الخشية من التدخّل الروسي الذي انتصر سلاحه في الحرب. أمّا مارتن إنديك في كتابه عن كيسنجر (2022) فيذهب إلى أنّ كيسنجر كانت لديه دوافع عاطفية قوية تجاه إسرائيل لأنّه يهودي، ولديه (مثل مارتن إنديك) عقدة الخوف من المذابح، وأنّ إسرائيل هي المشروع اليهودي الأنجح منذ ألفَي عام. وإنديك يهودي أسترالي صهيوني وكان كما يقول متطوّعاً في أحد الكيبوتزات عام 1967، ثمّ صار أميركياً وطار بسرعة الصاروخ في الإدارات أيام بيل كلنتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما.
على أيّ حال، وعلى الرغم من أنّ إنديك خلال تأليفه لكتابه عن نموذجه المفضّل أجرى معه عشرات المقابلات، فإنّه ما كان مقتنعاً تماماً بأولويّات دبلوماسية كيسنجر. أخّر كيسنجر بمجلس الأمن وقف إطلاق النار لأكثر من أسبوع لكي تتقدّم إسرائيل أكثر، لكنّه بعد الوقف سار في دبلوماسيته المكّوكية بين مصر وسورية وإسرائيل حتى حقّق الفصل بين القوات لكي لا تبقى إمكانية لتجدّد الاشتباكات.
تقسيم “الجبهات” والحلول
كان كيسنجر، كما يقول، يعرف المسؤولين المصريين جيّداً، وتعرَّف عن كثب على الرئيس حافظ الأسد. وكانت وجهة نظره أنّه ينبغي إعطاء المصريين والسوريين شيئاً لكي لا يعود القتال من جهة، ولكي لا يكسب الروس أوراقاً، ولكي يحدث تفكير جديد في القضية الفلسطينية بعد أن تخرج الدول العربية منها باستعادة أرضها. ومرّةً أخرى يلومه مارتن إنديك لأنّه لم يمشِ بالخيار الأردني، وسمح بأن تصبح منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثّل الشرعي الوحيد للفلسطينيين عام 1974!
إنديك ما يزال كما كان، ففي حرب غزّة الجارية أعلن عن يهوديّته وصهيونيّته من جديد، وأعلن عن ارتياعه ممّا حصل، وتماماً مثل وزير الخارجية الأميركي الحالي أنتوني بلينكن قال إنّه يهودي قبل أن يكون أميركياً.
كيسنجر الأذكى خطّط لأمن إسرائيل في المدى البعيد. قسّم الجبهة العربية إلى جبهات مراعياً أولويّات إسرائيل:
– الضفة الغربية والقدس لا يمكن التفاوض عليهما، ولذلك يتأجّل موضوع الأردن، وليخرج من النزاع تأميناً له أيضاً، وبخاصةٍ أنّه لم يدخل الحرب.
– وحافظ الأسد متردّد، وكلّ شيء أو لا شيء، فلنكتفِ بفصل القوات، ولنركّز على مصر لأنّه إذا حصل سلامٌ مع مصر لن تحدث حربٌ عربيّةٌ بعدها مع إسرائيل.
– والنضال الفلسطيني وحده لا يهدّد أمن إسرائيل جدّياً.
بالفعل تقدّمت المحادثات مع مصر، وجرى التفكير في فتح قناة السويس، والانسحاب الإسرائيلي إلى الممرّات. وكلّ ذلك والإسرائيليون يشكون من الضغوط الأميركية، إلى أن فاجأهم الرئيس السادات بالزيارة والخطاب في الكنيست، وتلت ذلك في عام 1979 معاهدةٌ للسلام تحرّرت بموجبها سيناء باستثناء طابا التي قضى بها لمصر التحكيم الدولي.
اعتبر كيسنجر في مذكّراته أنّ معاهدة السلام تلك إنجاز له ولأميركا، وتهرّب من ذكر الدور الكبير الذي لعبه الرئيس جيمي كارتر.
كنت أستاذاً زائراً بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفرد عام 1993 عندما حصلت اتفاقية أوسلو والتقى الرئيس كلينتون بإسحاق رابين وياسر عرفات احتفاءً بالاتفاقية. في المناسبة وبعد مشاهدة احتفالية كلينتون، جرت ندوة بمدرسة كينيدي للعلوم السياسية بهارفرد شارك فيها أساتذة كبار. واختلف المحاضرون والمعلّقون أيّهما أهمّ لإسرائيل (ولأميركا): كامب ديفيد أم أوسلو. وكان لكلٍّ منهما أنصاره. لكنّ جون راولز، فيلسوف القانون المعروف، وميرشهايمر أستاذ العلوم السياسية المعروف، ذهبا إلى أنّ لكلٍّ من الاتفاقيّتين أهميّتها الخاصة:
– كامب ديفيد من الناحية الاستراتيجية لأنّها خدمت الأمن الاستراتيجي بالمنطقة في المدى الطويل.
– وأوسلو لأنّ الشعب الفلسطيني لا بدّ أن تكون له دولة أو يستمرّ الاضطراب في إسرائيل والمنطقة.
إنّما المهمّ، كما قالا، في المآلات. كامب ديفيد نُفّذ، فهل تنفَّذ أوسلو؟!
هنري كيسنجر رجل دولة. ولذلك ليست له آراء حاسمة مع هذه السياسة أو تلك. فقد رأى ضرورة الضرب في أفغانستان بقوة، لكنّه لم يكن مع الاحتلال الطويل الذي انتهى بالفشل والانسحاب وعودة طالبان. وما كان مع غزو العراق، وما دام قد حصل فينبغي الانسحاب سريعاً. وفي الحرب الروسية – الأوكرانية عرض عدّة حلولٍ وسياسات، ومن بينها العودة إلى اتفاقية مينسك، وإعطاء الإقليمين اللذين احتلّهما بوتين الحكم الذاتي، وعدم فرض عقوبات مذلّة على روسيا إذا أمكن التفاوض بواسطة الصين.
عندما زار الصين في آخر أيامه واستقبله الرئيس شي جينبينغ يبدو أنّه تحدّث عن شيء من ذلك لكن من دون أن يلقى استجابة بحجّة أنّ الغرب رفض المبادرة الصينية الأولى. ولم يؤن الأوان لمبادرة جديدة. وشكا الصينيون إليه أنّ الأميركيين خالفوا ما جرى الاتفاق عليه بشأن تايوان بتشجيع تايوان على المواجهة التي لا تستطيعها كأنّما يجرّون إلى صدامٍ عسكري.
عندما توفّي كيسنجر أثنى عليه الصينيون والروس على حدٍّ سواء. لكنْ في إسرائيل والعالم العربي، وبسبب المزاج الراديكالي السائد، ما حظيت ذكراه بترحيبٍ كبير.
في النهاية كما في البداية: ماذا يفيد تذكّر كيسنجر وسياساته؟
يفيد هذا الإيمان عنده بقوّة التفاوض، واقتناعه بضرورات التوازن النسْبي بحيث لا يشعر طرفٌ بالغلبة، وطرفٌ آخر بالظلم الشديد. وأخيراً وعلى الرغم من قوة الدولة العظمى الهائلة: تجنّب الحرب ولتكن الاحتمال الأخير. بل وليكن الهدف منها عند الضرورة القصوى العودة السريعة للسلام.