ثلاثة خيارات تقدم للفلسطيني الذي لا يملك إلا خياراً واحداً
} سعادة مصطفى ارشيد *-البناء
عادت الحرب للاشتعال بعد انتهاء وقف إطلاق النار، ولكن بشكل أكثر ضراوة وجنوناً ووحشية من ناحية جرائم القصف والإبادة، وأكثر إيلاماً في الجانب الإنساني، ولكن (الإسرائيلي) قد أخذ يتواضع عما كان يعلن من أهداف لهذه الحرب في السابق. فقد كان يتحدث عن ازالة المقاومة وحركة حماس من الوجود، وبما يشبه السياسة الأميركية التي حملت اسم اجتثاث البعث في عراق ما بعد صدام حسين، وتحدّثت عن تحرير الإسرائيليين المحتجزين لدى المقاومة بالقوة، الى ان تحول وأصبح يقول مؤخراً أنه يريد فقط إخراج حماس من حكم غزة لا القضاء عليها. وكان قد سبق له أن ارسل مبعوثه الى الدوحة للتفاوض مع حماس من أجل اطلاق سراح الاسرائيليين المحتجزين لدى المقاومة وبشروطها.
لم ترتعد فرائص المقاومة وحماس خوفاً من العمليات العسكرية (الإسرائيلية) ولا من التهديدات التي يطلقها رئيس حكومة الاحتلال ووزير الدفاع. وهذا ما كان واضحاً في حديث نائب رئيس مكتبها السياسي منذ ايام بأن قال إن حماس والمقاومة ماضيتان في المعركة حتى نهاياتها، وإن حماس هي من ترفض الحديث والتفاوض حول الأسرى الى ان يحصل وقف إطلاق النار الشامل بشروط المقاومة مهما طال أمد الحرب التي ستكون فيها المقاومة أكثر قدرة على الاحتمال من الاحتلال وجيشه.
واذا كان ذلك ما تعلنه حكومة الاحتلال من اهداف، فإن للحروب دائماً أهدافها المضمرة وهي في حالة حربنا هذه أهداف مشتركة بين الإدارة الأميركية التي تقود الحرب بالحقيقة والحكومة (الإسرائيلية) التي تشارك في إدارة الحرب وفي اتخاذ القرارات ويقع على عاتقها التنفيذ وإن احتفظت واشنطن بحق النقد العلني لبعض التفاصيل والمجريات القتالية، وأرسلت او انها اعتنت انها سترسل بعض المساعدات الإغاثية من طعام ودواء وملابس مستعملة لأهل غزة مقابل ما ترسله من قنابل يصل وزن بعضها إلى الفي رطل لقتلهم.
ولما كانت الأهداف المعلنة مستحيلة التحقيق سواء بالقضاء على المقاومة أو في منعها من حكم غزة على حد سواء، كما هي أكثر استحالة عند التفكير بتصفية المسألة الفلسطينية، فإن هذا جعل (الإسرائيلي) يحتاج للعمل مرحلياً على تحويلها من مسألة قومية – وطنية الى مسألة إنسانية، ولطالما كانت أفكار ومخططات التهجير موجودة في عقول وأدراج الحكومات (الإسرائيلية) المتعاقبة منذ عام 1948، ولكنهم كانوا يرون أن لا مانع من وجود أعداد قليلة من الفلسطينيين وذلك لإعطاء دولتهم صفة غير عنصرية ولأنها قد تحتاج هذا العدد القليل في سوق العمل خاصة في الأعمال الجسديّة وذات المستوى المتدنّي. تزعم الإدارة الأميركية أنها تضغط على «إسرائيل» لعدم استهداف المدنيين والبنية الفوقيّة والتحتيّة لغزة، وأنها لا تقبل بمشروع التهجير ولا تزال تتحدّث في بياناتها عن حلّ الدولتين، كل ذلك يترافق مع شهادات الزور التي يقدّمها الأميركي الأول مردداً بها الروايات (الإسرائيلية) المكذوبة والتي تنفيها كل المصادر الصحافية او الدولية.
اول امس الثلاثاء تردد على لسان موظفي البيت الابيض توقعاتهم أن الجولة الحالية من القتال سوف تستمر حتى مطلع العام المقبل، فيما عقد مجلس الشعب المصري جلسة خاصة لبحث موضوع التهجير وطالب المجلس رئيس الوزراء بتوضيح التدابير والإجراءات التي اتخذتها الحكومة المصرية للحيلولة دون التهجير القسري. رئيس الحكومة بدوره اكد رفض بلاده للتهجير واستعداد حكومته لاتخاذ كافة الإجراءات التي تضمن حماية وصون حدود مصر، ولكنه أكد ان بلاده تعرّضت لضغوط وصفها بأنها شديدة جداً جداً للقبول بالتهجير، وذلك دون أن يوضح مصدر تلك الضغوط.
ولكن التدقيق في مشروع التهجير قادر على فضح حقيقة الموقف الأميركي ولعله قادر على كشف مصدر الضغوط التي تحدّث عنها رئيس الوزراء المصري. فمنذ مطلع حرب تشرين الثانية، وتحديداً في 20 تشرين الأول الماضي أي بعد أسبوعين من اندلاع الحرب، تقدم الرئيس الأميركي بايدن بطلب تمويل من الكونغرس بقيمة 3 مليارات ونصف المليار تحت عنوان الهجرة ومساعدة اللاجئين، وذلك للتعامل مع الاحتياجات الإنسانية التي تحفظ الحياة في اوكرانيا و(إسرائيل) والمناطق المتأثرة في البلدين. ويضيف نص الطلب ان التمويل سوف يوفر مساعدات انسانية تحفظ الحياة (إسرائيل) ومن يتأثر بسبب الحرب المندلعة بين (إسرائيل) وغزة، وأن هذه الأموال سوف تدعم النازحين بمن فيهم اللاجئون في غزة والضفة الغربية وللتعامل مع احتمالات نزوح أهل غزة الى دول مجاورة فهذه الأزمة قد تقود (حسب الطلب) الى نزوح عابر للحدود والى احتياجات إنسانية إقليمية وقد تستعمل خارج (إسرائيل) وخارج غزة.
فيما تقدم يؤكد الشراكة الأميركية لا بل القيادة الأميركية للحرب ولمشروع التهجير من غزة والذي لا يتطلّب سماح مصر أو غيرها. فالهجرة تتحقق من خلال خلق اوضاع بالغة الصعوبة للمجموع السكاني المتراكم في جنوب قطاع غزة، والذي ان لم يتم وضع حد لعذابه، فسوف تندفع موجات الهجرة عندما تصبح ظروف الحياة أكثر صعوبة، فتجتاز جموع المهاجرين الحدود والأسوار والأسلاك الشائكة، ولن يقف في طريقها حتى الجندي المدجّج بالسلاح، وجميعنا يعرف وسبق ان شاهد نماذج الهجرة من العراق وسورية وليبيا وبلدان أخرى في أفريقيا، وكيف كان المهاجر يضطر لاجتياز البحر المتوسط بقوارب الصيد الصغيرة ويتعرض للموت غرقاً هرباً من جحيم الحرب ونارها.
ثلاثة خيارات معروضة من قبل التحالف الأميركي- الإسرائيلي يقدّمها للفلسطيني إما ان تبقى وتصبح عبداً لدينا وقابلاً لوجودنا ومريداً لسرديتنا وخانعاً لسيادتنا على طريقة الاستعمار القديم ومزارع القطن في الولايات الجنوبية الأميركية في القرن التاسع عشر، وإما القتل، وإما الرحيل والهجرة؛ خيارات لا يمكن للفلسطيني من الرد عليها الا بخيار وحيد وهو خيار المقاومة والبقاء، الإرادة لا زالت قوية ويثبتها أن أبناء غزة الذين يعيشون في الخارج يتسابقون في الوقوف في طوابير العودة والدخول لغزة تاركين حياتهم المستقرة ومفضلين العودة للبقاء في جحيم الحرب وخطر الموت، لكنهم يحتاجون إلى وقفات من الأمة ومن العالم لدعم صمودهم.
*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير- جنين- فلسطين المحتلة.