آفي شلايم: “الموساد” نفذ عمليات التفجير ضد اليهود في بغداد في الخمسينيات
يُعَدّ شلايم من أهم المؤرخين اليهود المعاصرين، بين مَن يُعرف بالمؤرخين الجدد، الذين أسسوا تيار “ما بعد الصهيونية”.
صدر في لندن كتاب ، بعنوان Three Worlds : Memoirs of an Arab-Jew، “ثلاثة عوالم: مذكرات عربي يهودي”، عن دار “Oneworld Publications” في لندن، للمؤلف اليهودي من أصل عراقي، اَفي شلايم، المؤرخ البارز والأستاذ الجامعي المتقاعد في جامعة أكسفورد، يسرد فيه حكاية عائلته التي تنحدر من أصول يهودية، كما يسرد حكاية يهود العالم العربي مع الصهيونية، التي نشأت أصلاً في أوروبا ، ثم تمكنت من إقامة “دولة يهودية” في فلسطين المحتلة، مخلّفة نكبات وكوارث إنسانية لم يكن الفلسطينيون ضحاياها الوحيدين.
العالم الأول :عائلة يهودية ثرية تترك العراق بسبب خوف صنعه الموساد
العالم الأول، يقصد به مسقط رأسه العراق، الذي كان نموذجاً للتعايش والتكامل بين المسلمين ومختلف الطوائف الأخرى، بمن في ذلك اليهود، على الأقل حتى الحرب العالمية الثانية. لذلك، فإن الصورة التي يرسمها لقرائه بشأن العراق ما قبل الهجرة، يرجع الفضل فيها إلى ما كانت تقصه عليه والدته من حكايات عن الأيام الجميلة في العراق، والتي ظلت تذكرها بحسرة وألم، ولم تتوقف عن الحنين إليها حتى وفاتها قبل بضعة أعوام. فالعراق، كما ينقل عن والدته وعن أقرانها، كان بالنسبة إليهم جنة الله في أرضه، مقارنة بجحيم الكيان الصهيوني الذي انتهوا إليه رغماً عنهم.
ويتابع: ثم وُجِّه إلى هذا التعايش ضربة قاضية، وهي قيام الكيان الصهيوني عام 1948، وما تلاه من هجمات استهدفت يهود العراق. ويؤكد أن لديه دليلاً لا يمكن إنكاره على تورط صهيوني في هجوم الخمسينيات على يهود العراق، وأدت إلى هجرةٍ جماعية فى عامي 1950 و1951، والتي ما لبثت أن تلاها خروج جماعي ليهود العراق في اتجاه “الدولة” الصهيونية الوليدة في فلسطين.
ويكشف آفي شلايم في كتابه، “ثلاثة عوالم: مذكرات عربي يهودي”، أنه تمكّن أخيراً من العثور على دليل قوي يثبت ضلوع الحركة الصهيونية في التفجيرات التي وقعت في بغداد في الفترة الواقعة بين عامَي 1950 و1951، وهدفها تخويف اليهود وحملهم على التسجيل لمغادرة البلاد، بعد أن سنت الحكومة العراقية قانوناً يسمح لليهود بالهجرة في مقابل التخلي عن جنسيتهم العراقية، وعن كل ما يعود إليهم من ممتلكات داخل العراق.
وكان آفي يسمع من أهله، على مدى زمني طويل، اتهامات للموساد بالمسؤولية عن تلك التفجيرات، لكنه لم يجد في نفسه الاستعداد لتبني تلك الروايات، لأنه لا يؤمن بنظرية المؤامرة، ولأنه لم يكن يجد، فيما تيسّر له من معلومات، دليلاً قطعياً على ضلوع الصهيونية في تلك التفجيرات.
ويوضح شلايم أنه بينما تم تنفيذ هجوم بقنبلة يدوية، من جانب عربي، على كنيس مسعودة شمتوف في بغداد، والذي قُتل فيه 4 يهود في كانون الثاني/يناير 1951، فإن تفجيرات أخرى كانت من عمل الموساد الإسرائيلي.
ويؤكد شلايم أن عملاء صهاينة من جهاز الموساد الإسرائيلي هم من خطط عمليات التفجير في بغداد ونفذها. ويذكر أنه كان يبحث، ذات مرة، في أرشيف “الدولة الإسرائيلية” عن معلومات ذات علاقة بدراسات يجريها لأحد كتبه، وعثر حينها على ملفين عنوانهما “يهود العراق 1950” و”يهود العراق 1951″، إلا أن الملفين كانا ما زالا محظورين على الرغم من مرور أكثر من ثلاثين عاماً عليهما. وسبب الحظر، كما قيل له، تضمنهما وثائق تعود إلى الموساد.
تلك كانت البداية، بحيث قاده فضوله إلى البحث في أماكن أخرى، حتى وصل إلى شخص، كان ضمن فريق الموساد الذي كان ينشط سراً داخل العراق. ومنه وصل إلى معلومات تفصيلية بشأن هويات الأفراد المسؤولين، بصورة مباشرة، ولم يَطُل الأمر حتى أكدها له ملف أمني في أرشيف الشرطة العراقية، يتضمن تفاصيل التحقيقات التي أجرتها الشرطة حينذاك.
ويصف شلايم تلك التفجيرات بـ “الحقيقة الصادمة”. لكن، لماذا هذا الوصف يا ترى؟ لأن الذين خططوا عمليات التفجير ونفذوها لم يكونوا عرباً، بل كانوا يهوداً، الأمر الذي يعني أن يهوداً يقتلون يهوداً.
ويكشف آفي شلايم أن ضابط الموساد، الذي كان يدير شبكة التخريب في العراق، هو نفسه الذي كان يدير شبكة ما بات يعرف بفضيحة لافون في مصر عام 1954، بحيث قضت خطة الموساد بأن تقوم مجموعة من “الشبان الإسرائيليين” المدرَّبين بتخريب بعض المؤسسات المحلية والمنشآت الأميركية الموجودة في مصر، بهدف زعزعة الأمن المصري وتوتير الأوضاع بين مصر والولايات المتحدة.
ويقول شلايم إن الاحتلال الإسرائيلي، بعد نكبة عام 1948، كان يريد بث الرعب والخوف وعدم الشعور بالأمان في نفوس اليهود العراقيين، من أجل زرع القناعة في نفوسهم بعدم البقاء في العراق وجلبهم إلى “إسرائيل” بأي ثمن، وهو ما دفع الموساد إلى تنفيذ هذه التفجيرات من أجل إرغام اليهود على ترك بلدهم العراق، والهجرة الى “إسرائيل”.
ويوضح شلايم أن الموساد لجأ إلى عمليات القتل؟ لأن جزءاً كبيراً من اليهود العراقيين كان يرفض مغادرة العراق للعيش كمستوطن في “إسرائيل”، الأمر الذي دفع الموساد إلى استخدام وسائل دنيئة ليكون لها تداعيات تجبر اليهود على مغادرة العراق بلا عودة.
كانت “الدولة” الصهيونية الوليدة في حاجة ماسة إلى كتلة بشرية تملأ الأراضي المحتلة، خلال الشهور التي سبقت إعلان “قيامها”، وفي أثناء الشهور القليلة التي تلت ذلك.
ونجح جهاز الموساد، من خلال عملياته الإرهابية في بغداد، في دفع نحو 110 آلاف يهودي عراقي من أصل 135 ألفاً إلى مغادرة البلاد إلى كيان الاحتلال، وكانت عائلة شلايم بين الذين غادروا العراق، على رغم اعترافه في الكتاب بحياة الرفاهية والثراء التي كانت تعيشها عائلته في العراق، إلا أنها غادرت نتيجة الخوف.
العالم الثاني : اليهودي الغريب في أرض محتلة
شعر يهود العراق الوافدون حديثاً، مثلهم مثل يهود اليمن وشمالي أفريقيا والمغرب العربي، بغربة شديدة. فأصحاب المشروع، الذي أقام “الدولة اليهودية” ليسوا مثلهم في شيء. إنهم أشكناز، وهم يهود جاءوا من أوروبا يحملون فكرها وثقافتها وتحيزاتها. كان هؤلاء الأشكناز يزدرون كل ما له صلة بالعروبة أو بالإسلام، بمن في ذلك السفرديم، أي اليهود الشرقيون، أو اليهود العرب.
وبمجرد وصولهم إلى فلسطين، كان عدد كبير من اليهود العرب تبدلت أسماؤهم، بحيث تصبح أقرب إلى العبرانية منها إلى العربية، فأصبح أبراهام أفراهام، وينادى آفي بدلاً من آبي.
يقر آفي بأن عائلته كانت أوفر حظاً وأحسن حالاً في رحلة هجرتها مقارنة بكثير من اليهود القادمين من بلاد العرب، وذلك بأن والدته كانت تحمل جواز سفر بريطانياً، فلم تمر هي وأولادها في مراحل العبور المهينة التي كان يتعرض لها اليهود الآخرون، مثل الإقامة بعد الوصول في مخيمات عبور موقتة مكونة من الخيام أو العشش، والرش بمادة الدي دي تي عند الوصول، اعتقاداً من الأشكناز أن هؤلاء السفرديم يأتون من مجتمعات متخلفة تنتشر فيها الأمراض والأوبئة.
العالم الثالث: مراجعة المشروع الصهيوني من بريطانيا
أما العالم الثالث، فهو بريطانيا التي أرسل شلايم للدراسة فيها وهو في سن السادسة عشرة تقريباً، وحصل فيها على تعليمه الثانوي ثم الجامعي. وفيها تطورت مواقفه وآراؤه وتبدلت قناعاته تجاه القضية الفلسطينية، من شاب ليكودي داعم لليمين في الكيان الصهيوني، إلى “داعية سلام” يؤمن بحل الدولتين، ثم أخيراً إلى ناقد للصهيونية، يعدّها مشروعاً استعمارياً استيطانياً عنصرياً، وإلى نابذ لحل الدولتين لمصلحة حل “الدولة الديمقراطية الواحدة”، والتي من المفترض أن ينعم جميع مواطنيها بحقوق متساوية.
ويؤكد شلايم أن المشروع الصهيوني وجّه ضربة قاتلة إلى ما كان يتمتع به اليهود من مكانة في الأراضي العربية، إذ حولهم من مواطنين مقبولين إلى طابور خامس تحوم حوله الشكوك بسبب تحالفه مع “الدولة اليهودية”.
ويشير آفي إلى استخدام جهاز الموساد اليهود العرب ضمن شبكات تجسس، زُرعت في أكثر من بلد عربي، مستفيداً من تحدثهم بالعربية وإحاطتهم بأنماط الحياة والثقافة في المجتمعات العربية. ومن الحكايات المثيرة، التي أوردها، تلك التي تخص شخصاً من أفراد عائلته ظهرت عليه أمارات النبوغ والتفوق بعد وصوله من العراق إلى فلسطين المحتلة، فاستدعاه جهاز الموساد وعرض عليه التعاون معه، محذراً إياه من أنه لو رفض التعاون فإن طريقه نحو النجاح في الحياة المدنية سوف يُسَدّ.
زوّر الموساد لهذا الشاب هوية شخص عراقي مسلم، وأرسله إلى مصر ليلتحق بجامعة الأزهر، حيث درس الشريعة الإسلامية، وتمكن طوال فترة مكوثه في مصر من بناء علاقات مع عدد من الطيارين والعسكريين المصريين. وكانت المعلومات، التي جمعها منهم، حيوية في تمكين الإسرائيليين من توجيه ضربة قاصمة شلّت سلاح الجو المصري في الساعات الأولى من حرب عام 1967.
ويحكي آفي شلايم كيف حاول الموساد تجنيد والدته، فرفضت، ولما حاول ضابط الاستخبارات التحرش بها ركلته، فوقع على الأرض. وأفلتت والدته وتمكنت من الفرار. والفضل في ذلك يعود إلى أن إحدى ساقي الضابط، الذي تحرش بها، كانت اصطناعية.
وذكر شلايم، في كتابه، أن يهود العراق لم يواجهوا “معاداة السامية” حتى الأربعينيات عندما اشتُبه في تورطهم في الغزو البريطاني للعراق عام 1941، وفي النكبة.
ويضيف: صحيحٌ أن العراق شهد صعوباتٍ وتوتّرات، ومذبحة مؤلمة شهيرة لليهود في يونيو/حزيران 1941، بيد أن الكوزموبوليتانية والتعايش السلمي والتفاعل المثمر كانت هي السمات المسيطرة على المشهد. لا يعني ذلك أن وضع اليهود في البلدان الإسلامية كان يخلو من المشاكل، لكن جمع كل تلك المسائل تحت مسمّى “المسألة اليهودية” سيصنع حيرة والتباساً.
نشير إلى ان شلايم يُعَدّ من أهم المؤرخين المعاصرين اليهود، بين مَن يُعرف بالمؤرخين الجدد، الذين أسسوا تيار “ما بعد الصهيونية”، وبينهم بيني موريس وإيلان بابيه. الذي يعتبره صاحب “الموسوعة اليهودية والصهيونية” عبد الوهاب المسيري بانه نهاية الصهيونية.
اعتمد الثلاثي المعروف باسم “المؤرخين الجدد” – بينى موريس وإيلان بابيه وآفي شلايم – على الأرشيف العسكري الإسرائيلي، الذى افتُتح حديثاً في ثمانينيات القرن الماضي، لتقديم وجهة نظر أكثر انتقاداً لسياسة “إسرائيل” وتاريخها وروايتها الرسمية .
وُلد آفي شلايم في بغداد في عام 1945 لعائلة يهودية ثرية، تعيش حياة رغيدة، ومصدر رزقها التجارة، وتُحسب على عليّة القوم في البلاد. سماه والداه أبراهام، ودوّن اسمه في شهادة الميلاد العراقية الرسمية إبراهيم، وكان يُنادى اختصاراً آبي. لم يتجاوز الخامسة من عمره عندما غادر مع والدته وشقيقتيه وبعض من أفراد العائلة الآخرين إلى فلسطين.