كيف عمل الصهاينة سراً لدفع يهود العراق إلى الهجرة؟ المصادر التاريخية تؤكد أن يهود العراق، في عمومهم، لم يكونوا في وارد ترك بلدهم الذي عاشوا فيه مئاتِ السنين، والهجرة إلى فلسطين.
تضع السردية الإسرائيلية هجرة يهود العراق ضمن السياق العام لفكرة “اللاسامية”، والاضطهاد الذي تعرَّض له اليهود في أنحاء كثيرة من العالم، بحيث يصبح، بحسب هذه السردية، الدور الذي اضطلع به الصهاينة، في عملية ترحيلهم الجماعي إلى فلسطين المحتلة، “إنقاذياً” وذا طابع إنساني.
والحقيقة خلافُ ذلك تماماً، والبحث التاريخي يكشف أن يهود العراق كانوا بعيدين عن الفكرة الصهيونية الواردة من أوروبا بشأن تجميع يهود العالم في “أرض إسرائيل”، وخصوصاً أن أحوالهم في العراق، في بدايات القرن العشرين، كانت مستقرة وممتازة للغاية؛ أي أن ما قامت به الصهيونية لم يكن عملية “إنقاذ”، بل اقتلاع لطائفة دينية راسخة الجذور في بلدها.
تمتَّع اليهود بأحوال وظروف حياة ممتازة في العراق، إلى الحدّ الذي دفع الإسرائيلية، فيوليت شاماش، وهي من مواليد بغداد سنة 1912، إلى تأليف كتابٍ سمَّته “ذكرياتي في الجنة: رحلة في بغداد اليهودية[1] “، قالت فيه إنه، من بين كل التجمعات اليهودية في الشرق الأوسط، كان يهود العراق الأكثر تكاملاً واندماجاً في المجتمع، والأكثر عروبة، والأكثر ازدهاراً. وذكر الباحث الإسرائيلي، موشيه غات، أنه في عشرينيات القرن الماضي، قبل استقلال العراق، سأل موشيه شاريت وحاييم أرلوزوروف (وهما من زعماء الوكالة اليهودية في فلسطين) سلمان شينا (وهو من زعماء يهود العراق) بشأن إمكان هجرة يهود العراق، فأجاب بأن اليهود سعداء بحياتهم في العراق، وهم منخرطون في العمل والتجارة، ولا نية لديهم أبداً في الهجرة[2].
أمّا الأستاذ الجامعي الإسرائيلي في جامعة حيفا، رويفين سنير، فنشر بحثاً طويلاً [3] ذكر فيه شهادات لشخصيات يهودية عراقية بارزة، تتحدّث فيها عن انتمائها إلى العراق وولائها له وللثقافة العربية، نذكر منها الأدباء والشعراء والكتّاب إسحاق بار موشيه وسلمان درويش وأنور شاؤول. كما نُقِل عن الأستاذ عزرا حداد قوله، في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، “نحن عرب اولاً، وفقط بعد ذلك نحن يهود”. ونُقل عن الكاتب شالوم درويش قوله إن العراق هو وطن يهود العراق الوحيد “إلى أن يقوم المسيح”!
المواجهة بين الحاخام ساسون خضوري والصهاينة
تؤكد كل المصادر التاريخية أن يهود العراق، في عمومهم، لم يكونوا في وارد ترك بلدهم الذي عاشوا فيه مئاتِ السنين، والهجرة إلى فلسطين. لم تكن الفكرة الصهيونية مقبولة لديهم، وكانوا يريدون أن يستمروا مواطنين مثل سائر العراقيين، المسلمين والمسيحيين.
ونقل رويفين سنير[4] عن إميل مارمورستاين، مدير مدرسة شماش في بغداد، قوله “نحن متمسكون ببلدنا وتقاليدنا وأضرحتنا وأنبيائنا، ولن نتركهم من أجل بدء حياة جديدة كمهاجرين في مخيمات “إسرائيل”، حيث لا أحد هناك يكنّ الودّ لليهود الشرقيين”. كما ذكر أن أرنولد ويلسون، مسؤول الشؤون المدنية البريطاني في بغداد، قابل مجموعة من زعماء اليهود، وأرسل تقريراً إلى لندن قال فيه “إن مغادرة العراق من أجل الالتحاق بالكيبوتز (الإسرائيلي) هي آخر شيء يخطر في بال اليهود”، وأضاف أنهم قالوا “فلسطين بلدٌ فقير، والقدس ليست مكاناً جيداً للعيش فيه، وبالمقارنة معها، فالعراق هو جنة عدن! نريد منكم (الإنكليز) فقط أن تعطونا حكومة جيدة هنا (في العراق)”.
والشخصية الأبرز في صفوفهم كانت الحاخام ساسون خضوري، الذي يُعَدّ زعيم الطائفة في بغداد. خاض الحاخام خضوري صراعاً مريراً مع الصهاينة الذين كان يعارض نشاطهم وأهدافهم في العراق بكل قوته. أراد خضوري أن يحافظ على طائفته، ويُبعد عنها كل أذىً قد يلحق بها نتيجة الصهيونية وأعمالها في فلسطين.
وما ساعَدَ الحاخامَ خضوري ومكَّنه من الصمود في وجه الصهاينة، سنينَ طويلة، هو وجودُ تيار شيوعي قوي داخل الطائفة اليهودية في العراق؛ أي أن معارضة الصهيونية لم تكن تقتصر على رجال الدين وكبار السن والأثرياء، بل أيضاً في أوساط الشيوعيين اليهود من مثقفين وشبّان.
فَقَدَ الصهاينة كل أمل في أن يتجاوب الحاخام خضوري معهم. كان يقف حجر عثرة في وجوههم، بحكم مكانته في الطائفة، وقيمته العالية لدى رعيته من اليهود. ووصل به الأمر إلى حدّ مطالبتهم بوقف نشاطهم السري، وتسليم أسلحتهم إلى السلطات، ومغادرة العراق!
بل إنه، عندما صدر قرار الأمم المتحدة القاضي بتقسيم فلسطين عام 1947، أصدر بياناً يرفض فيه الصهيونية مرة أخرى، ويؤيد الموقف العربي في فلسطين. كما شجّع اليهود العراقيين على المشاركة مع سائر العراقيين في التظاهرات الجماهيرية الرافضة لقرار التقسيم[5].
كان ذلك فوق قدرة الصهاينة على الاحتمال، فقرّروا التخلص من الحاخام خضوري في أي وسيلة. في تشرين الأول/أكتوبر 1949، استغلّ الصهاينة الحملة القوية التي شنتها الشرطة العراقية في أوساط اليهود بحثاً عن العناصر الصهيونية، والتي شابتها قسوة وفظاظة واعتقالات مبالَغ فيها، وقاموا بتحريض أبناء الطائفة ضد الحاخام خضوري، وشنّوا ضده دعاية كبيرة تُظهره خائناً للطائفة، أو متواطئاً مع السلطة، الأمر الذي أدّى إلى مظاهرة ضده قام خلالها بعض المتطرفين (أو المدسوسين) بالاعتداء جسدياً على الحاخام، فنُقِل إلى المستشفى. استمرت حملة الضغوط الصهيونية على الحاخام خضوري بلا توقف، ووفق مظاهر متعددة، الأمر الذي أدّى في النهاية إلى تقديمه استقالته من منصبه كزعيم للطائفة. كان ذلك انتصاراً كبيرا للصهاينة، وخصوصاً أن خليفته في المنصب، يحزقل شمطوف، كان ألعوبة في ايديهم.
اعتداءات واسعة النطاق على اليهود: أحداث “الفرهود”
وصل الصراع البريطاني – الألماني، في ثلاثينيات القرن الماضي، إلى العراق، وأثّر في أحواله الداخلية. وقام ضباط وطنيون كبار في الجيش العراقي، من ذوي الميول الألمانية، بانقلاب عسكري سيطروا من خلاله على الحُكم، وعينوا رشيد عالي الكيلاني في منصب رئيس الوزراء. ونتيجة لذلك، هرب من البلد الوصيّ على العرش الأمير عبد الإله، ومعه رجل بريطانيا العريق في العراق، نوري باشا السعيد، إلى إمارة شرقي الأردن، حيث الحماية البريطانية. قرّر ونستون تشيرتشل، في أيار/مايو 1941، إعادة احتلال العراق، بالغزو العسكري المباشر. وبالفعل، بدأ الهجوم البريطاني من البصرة جنوباً في اتجاه الشمال، ومن قاعدة الحبانية في غربي العراق في اتجاه بغداد. وفي النهاية، انهزم رشيد عالي الكيلاني وهرب من العراق. أدّى سقوط الحكومة، والفراغ الذي حدث، إلى فوضى عارمة في بغداد. وطبعاً، كان لا بدّ للإنكليز من أن يُعيدوا رَجُلَيهم إلى الحُكم، عبد الإله ونوري السعيد. خرجت أعداد من اليهود (الذين كانوا مرعوبين من أخبار ما يحدث لليهود في أوروبا على يد هتلر) للترحيب بعودة الأمير عبد الإله – القادم مع الإنكليز – إلى بغداد. وهذه كانت بمثابة الشرارة التي أشعلت الأمور، وأدت إلى اندلاع موجة هجمات عشوائية على اليهود وممتلكاتهم، من جانب عراقيين كثيرين، اعتبروهم “عملاء” للاحتلال البريطاني. وهذه الهجمات الشديدة القسوة تُعرَف بـأحداث “الفرهود”. فعلى مدىة يومين، الـ 1 والـ 2 من حزيران/يونيو 1941، هاجمت جموع من العامة، ومعها عناصر منفلتة من الجيش وقوى الأمن، مناطقَ اليهود ومحالَّهم وكنائسهم، وأسفر ذلك عن مقتل عدد كبير من اليهود يتراوح بين 130 و180 شخصاً، بحسب اختلاف التقديرات، وإصابة وجرح المئات، وتدمير عدد كبير من الممتلكات.
وحتى الآن يستغل الصهاينة أحداث “الفرهود” من أجل ادّعاء تعرُّض اليهود لاضطهاد منَّظم وحملة كراهية لاساميّة. لكن، يجب تذكّر أن “الفرهود” هي الحادثة الوحيدة التي حدثت في هذه الصورة ضد اليهود في تاريخ العراق. وهي أحداث لم تكن منظَّمة، ولا قامت بها الحكومة، ولا صدر بشأنها قرار من القيادة، بل كانت في ظروف فوضى شاملة وفراغ في السلطة. كما أنها لم تمتدّ إلى مدن العراق الأخرى التي يعيش فيها يهود، وأخيراً هي توقفت بسرعة، ولم تتكرَّر بعدها.
لكن، للأسف، أدّت أحداث “الفرهود” إلى شعور عام بالخوف من المستقبل بين اليهود في العراق، وفقدان ثقة بقدرة السلطة على حمايتهم. كانت “الفرهود” خدمة كبيرة للتيار الصهيوني، الذي بدأ يحصل على زخم متزايد في اوساط يهود العراق.
التنظيم الصهيوني السري في العراق
على الرغم من قسوة أحداث “الفرهود” وشدة تأثيرها، فإن هناك مصادر تؤكد أن يهود بغداد نجحوا في تجاوز الأزمة، واعتبروها عابرة ولا تمثّل حقيقة موقف الأغلبية من العراقيين، فرجعوا إلى ممارسة نشاطهم وأعمالهم، كما في السابق[6] . وبقيت الهجرة إلى فلسطين فردية، وفي حدودها الدنيا – فقط 64 شخصاً هاجروا في الفترة الممتدة بين عامَي 1946 و1948[7]!
هذا الأمر طبعاً لم يُعجب صهاينة فلسطين، فقرّروا تأسيس المنظمة الصهيونية السرية للعمل في العراق. وكانت هذه المنظمة ذات طبيعة عسكرية ـ أمنية ـ استخبارية. كان الصهاينة قادرين بسهولة على دخول العراق عبر شرقي الأردن متنكِّرين في زيّ جنود بريطانيين. هدفهم الرئيس كان استثمار أحداث “الفرهود” إلى أقصى مدى من أجل زيادة حالة عدم الشعور بالأمان بين اليهود، وإقناعهم بأن مستقبلهم في فلسطين، لا العراق! انتدبت المنظمة الصهيونية ثلاثة أشخاص رفيعي المستوى من كوادرها ليتوجَّهوا إلى العراق من أجل قيادة نشاطات المنظمة السرية وتوجيهها: الأول هو إينزو سيريني (التثقيف العقائدي)، والثاني هو شمارياهو غوتمان (الهجرة غير الشرعية)، والأخير هو عيزرا خضوري (الشؤون الأمنية). ووضّحت أستير مئير – غليتزنستاين المهمة الكبيرة التي تنتظر هؤلاء الثلاثة، حين قالت “كان عليهم أن يغيّروا الناس ويجعلوهم يهوداً جدداً، مثل الصهاينة الذين هم في “أرض يسرائيل”، ليأخذوهم إلى الكيبوتزات، وأن ينتزعوا ويمحوا كل شيء عربي في هؤلاء الناس ليصبحوا أشخاصاً جدداً تماماً)[8] . وتُظهر تقارير المبعوثين الصهاينة إلى قيادتهم في فلسطين مدى المشقة التي كانوا يواجهونها، إذ كتب سيريني أن “هؤلاء (اليهود العراقيين) ليس لديهم تفكير صهيوني، ولا حتى غريزة صهيونية”!
لكنّ ما ساعد الصهاينةَ ومكَّنهم من الثبات، وتحقيق أهدافهم، في النهاية، أمران:
الأول هو انعكاس الأوضاع والتطورات الجارية في فلسطين، وتأثيرها في العراق. فالأخبار تتوالى من هناك عن الجرائم الصهيونية بحق العرب، وعن الاستيطان واغتصاب الأراضي، برعاية الانتداب البريطاني. وكل ذلك يُثير حميّة العراقيين ويهيجهم ويفاقم لديهم حدة الشعور المعادي لبريطانيا والحركة الصهيونية. وكثيراً ما انعكس ذلك على يهود العراق الذين صاروا، مع مرور الوقت، محلَّ اشتباه، ومشكوكاً في انتمائهم إلى العراق والعروبة مهما فعلوا حتى لو تبرّأُوا من الصهيونية وأدانوها.
الثاني هو كون اليهود أقلية في وسط أكثرية عربية مسلمة. وبحكم ذلك، فإن اليهود تاريخياً كانوا موالين جداً ومطيعين للحكام المسيطرين على زمام الأمور، كائناً من كانوا. وفي الماضي، والوا الدولة العثمانية وباشاواتها، ووالوا بعد ذلك الإنكليز بعد احتلالهم العراق، ثم والوا الملك فيصل والأمير عبد الإله ونوري السعيد. لذلك، نظر كثير من العراقيين إليهم بسلبية وتوجّس، كعملاء للسلطة وللاحتلال.
قرار صهيوني حاسم: يهود العراق يجب أن يهاجروا مهما كلّف الأمر!
الواقع أن التفكير الإسرائيلي – الصهيوني في تهجير يهود العرب قديم. ففي عام 1944، أعلن دافيد بن غوريون “خطة المليون”، على أن تنفَّذ في بداية الخمسينيات، والتي تجعل يهودَ البلاد العربية في مركز المشروع الصهيوني[9].
بدأت سلسلة من الهجمات[10] المريبة، والتي نفّذتها عناصر مجهولة، على أهداف يهودية في العراق في الفترة الممتدة بين آذار/مارس 1950 وكانون الثاني/يناير 1951.
وفي مقالته الطويلة[2] والمعنونة، “يهود العراق”، يعترف نعيم غلعادي، وهو يهودي عراقي اشتغل عميلاً للمنظمة السرية الصهيونية في ذلك الوقت، بأن هذه الهجمات والقنابل كانت من تخطيط “الموساد” الإسرائيلي وعمله، وعبر أوامر من دافيد بن غوريون، الذي أراد دفع اليهود العراقيين إلى الهجرة إلى “دولة إسرائيل” الجديدة، والتي هي محتاجة إلى “ناس”!
تنفي “إسرائيل” رسمياً هذه الاتهامات، وتُصرّ على أن دورها اقتصر على “إنقاذ” يهود العراق من حملة اللاسامية العربية الإسلامية، والتي شنّها ضدهم الوطنيون العراقيون. لكنّ واحداً من الباحثين الذين يتبنّون الرواية الإسرائيلية كاملة، موشيه غات، يعترف بأن إحباط الصهاينة من عدم تجاوب يهود العراق مع دعوتهم إلى الهجرة، وصل إلى حدّ دفع أحد مبعوثيهم السريين إلى العراق إلى إرسال اقتراح إلى قيادة “الموساد”، في نيسان/أبريل 1949، مفادها أن يتم إلقاء قنابل على المقاهي التي يرتادها اليهود، مع طباعة منشورات تهديد، وذلك من أجل خلق حالة رعب في أوساطهم، تدفعهم إلى مغادرة العراق. وكتب في تقريره “في رأيي، لا شيء غير ذلك سيُجدي نفعاً”[11].
على الرَّغم من أن غات يقول إن قيادة “الموساد” رفضت الموافقة على التوصية، فإن هناك مؤشرات كثيرة خلاف ذلك، وأن “الموساد” وافق فعلاً على خطة الهجمات المقترحة. ومن الملاحّظ أن الهجمات لم تكن كبيرة الحجم، والقنابل التي أُلقيت او زُرعت لم تكن تهدف إلى قتل اليهود. عدد الضحايا كان قليلاً جداً (إصابات فقط، من دون قتلى)، والضرر كان مقتصراً أساساً على الممتلكات. كما أن الطريقة التي نُفِّذت بها الهجمات، وتوقيتها، يدعمان الفكرة القائلة إن الهدف كان التخويف وخلق حالة عدم شعور بالأمان في صفوف اليهود، وليس قتلهم. وهذه الهجمات “الخفيفة” كانت مغايرة نوعياً لتلك التي شهدتها أحداث “الفرهود” عام 1941. كما أن الشرطة العراقية تمكَّنت من اعتقال الفاعلين، وكلّهم كانوا من المنظمة السرية الصهيونية. وفي أواخر عام 1951، صدر حُكم بإعدام اثنين منهم (يوسف بصري وشالوم صالح).
قانون إسقاط الجنسية العراقية عن اليهود المهاجرين 1950
في آذار/مارس 1950، صدّق البرلمان العراقي، في مجلسيه، الأعيان والنواب، على القانون الرقم 1 لعام 1950، والذي اشتُهر بـ “قانون إسقاط الجنسية” عن اليهود. وينصّ القانون على السماح لمن يرغب، من يهود العراق في ترك العراق نهائياً، بأن يهاجر، رسمياً وشرعياً، في مقابل توقيعه على استمارة بالتنازل عن جنسيته العراقية. وأعطى القانون اليهودَ العراقيين مهلة عامٍ للتفكير والتسجيل لطلب الهجرة. كما ينص القانون على نزع الجنسية العراقية عن اليهود الذين غادروا العراق في فترات سابقة من دون إذن، او بوسائل غير مشروعة، ما لم يعودوا خلال شهرين. وقدَّمت الحكومة العراقية تبريرها من أجل تقديم هذا القانون إلى البرلمان، وقالت إن “الأسباب الموجبة” هي أنه “لوحِظَ أن بعض اليهود العراقيين أخذوا يتذرَّعون بكل الوسائل غير المشروعة من أجل ترك العراق نهائياً. وإن وجود رعايا من هذا القبيل، مُرغَمين على البقاء في البلاد، ومُكرَهين على الاحتفاظ بالجنسية العراقية، يؤدي إلى نتائج لها تأثيرها في الأمن العام، وإلى خلق مشاكل اجتماعية واقتصادية، فقد وجد أنه لا مندوحة من عدم الحيلولة دون رغبة هؤلاء في مغادرة العراق نهائياً وإسقاط الجنسية العراقية عنهم[13]”.
بعد انتهاء مهلة العام، أصدرت الحكومة العراقية تعديلاً ملحقاً بالقانون يقضي بوضع اليد على ممتلكات الأشخاص الذين أُسقِطت عنهم الجنسية العراقية، وعلى أموالهم المنقولة وغير المنقولة ومصادرتها، وتشكيل لجنة خاصة بذلك.
وليس هناك من تفسير مقنع أو منطقي لإصدار قانون إسقاط الجنسية سوى رغبة الحكومة العراقية، الموالية للإنكليز، في تسهيل هجرة اليهود إلى “إسرائيل” والتشجيع عليها، بناءً على رغبة الحركة الصهيونية. فقبل إصدار القانون، كانت الهجرة إلى “إسرائيل” أمراً غير شرعي، وخطيراً، ويحمل في طياته تهمة الخيانة والاتصال بالعدو، لأن العراق كان رسمياً في حالة حرب مع “إسرائيل” منذ أن شارك عبر جيشه في حرب فلسطين عام 1948. أمّا الآن، فالمسألة سهلة وآمنة.
كما نلاحظ أمراً مهماً (وخبيثاً)، وهو أن القانون الاصلي (الرقم 1 / 1950) لم يتكلم على مصادرة الأموال والممتلكات، واكتفى بالتنازل عن الجنسية. فاليهود، الذين سُجلوا وتقدموا بطلبات للهجرة خلال مهلة العام، لم يكونوا يتنازلون عن أملاكهم ولا أموالهم، بل فقط جنسيتهم. لذلك تقدّموا بأعداد كبيرة، وبصورة جماعية تقريباً. ولو كانوا يعرفون أنه ستتم مصادرة ممتلكاتهم وأموالهم فلربما تردَّدوا كثيراً، ولكانت أعداد المهاجرين أقل كثيراً.
تواطؤ الساسة العراقيين مع الصهاينة في تسهيل التهجير
بعد ستة أسابيع من صدور قانون إسقاط الجنسية، وصل إلى بغداد ضابط “الهاغاناه” و”الموساد” الإسرائيلي، شلومو هيلل، يوم 27 نيسان/أبريل 1950، مستخدماً جواز سفر بريطانياً باسم ريتشارد آرمسترونغ. ووصل بصفته ممثلاً لشركة “طيران الشرق الادنى” الأميركية من أجل التعاقد مع حكومة العراق لنقل يهود العراق إلى قبرص. والتقى المعنيَّين بالأمر في حينه: رئيس الوزراء توفيق السويدي ووزير الداخلية صالح جبر. وليس هناك من شكّ في أن المسؤولَين الكبيرَين كانا يعرفان الهوية الحقيقية لآرمسترونغ (الذي لا يبدو شكله كآرمسترونغ إنكليزي!). لقد كان شلومو هيلل من يهود العراق الذين تم اعتقالهم بتهمة النشاط المسلَّح الصهيوني قبل أعوام قليلة، ويوجد له ملف لدى الشرطة العراقية. وتبيّن أن الرجلين، السويدي وجبر، يمتلكان أسهماً في الشريك المحلي العراقي لـ”شركة الشرق الأدنى”. وبالتالي، فإنّ كِلَيهما سيستفيد مادياً من هجرة كل نفر يهودي يغادر؛ أي أنها طريقة مبطَّنة للرشوة. لذلك، لا عجب في أن هيلل غادر العراق مسروراً جداً بما أنجزه، وكتب إلى رؤسائه في “الموساد” “افترقنا ونحن على أفضل ما يرام”. طبعاً، كانت “شركة الشرق الادنى” مملوكة للوكالة اليهودية، وتشتغل لها[14]. ويقول عباس شبلاق، نقلاً عن مصادره، إن الحكومة العراقية، بعد عقد صفقة هيلل – السويدي، رفضت طلباً من الطائفة اليهودية بشأن تنظيم عملية سفر اليهود، أو حتى الاشتراك في التنظيم، وتركت هذه المهمة لرجال “الموساد” الإسرائيلي، والذين أصبحوا يعملون في العلن[15].
تواصلت رحلات الطيران لنقل اليهود إلى قبرص أولاً، ومنها إلى “إسرائيل”، على مدى عام كامل، وانتهت في حزيران/يونيو 1951. العملية أُطلق عليها “عِزرا ونيحمياه”. وبحسب الإحصاءات الإسرائيلية، فإنه وصل من العراق 124،646 يهودياً يشكّلون أكثر من 96% من يهود العراق، الذي لم يبقَ فيه سوى 4،900 يهودي، بحسب إحصاءات عام 1957.
[1] “MEMORIES OF EDEN: A JOURNEY THROUGH JEWISH BAGHDAD” by Violette Shamash,, London Review of Books , Feb 2008
[2] The Emigration of Iraqi Jewry 1950 -51 , Moshe Gat , P73/74
[3] (If I Forget You Thee, O Baghdad : The Demise of Arab- Jewish Identity and Culture) , University of Haifa, by Reuven SNIR
[4] المصدر السابق
[5] “The Jews of Baghdad and Zionism 1920 – 1948” by Ari Alexander, P107
[6] “BAGHDAD YESTERDAY: THE MAKING OF AN ARAB JEW” by Sasson Somekh, 2007, as reviewed by
Adam Shatz in London Review of Books.
[7] “The Jews of Baghdad and Zionism 1920 – 1948” by Ari Alexander, P106, referring to Hayim Cohen P109-112.
[8] المصدر السابق ص105
[9] “The Jews of Baghdad and Zionism 1920 – 1948” by Ari Alexander, P104
[1] Details of these attacks can be found at the long article “THE JEWS OF IRAQ” by Naeim Giladi published by The Link, Volume 31, April-May 1998 and posted at the “Palestine Remembered” website on March 5th 2007
[10] المصدر السابق
[11] “Between the Hammer and Anvil : On the Emigration of Iraqi Jewry 1948- 1951”, by Moshe Gat ,
[12] P85, Published in “Jewish Culture and History” Magazine , Dec 2002
[13] النص مأخوذ من كتاب عباس شبلاق “هجرة أو تهجير, ظروف وملابسات هجرة يهود العراق”, مؤسسة الدراسات الفلسطينية ، 2015
[14] مصدر هذه المعلومات عن زيارة شلومو هيلل للعراق ولقائه مع السويدي وجبر، هو:
“Operation Babylon” by Shlomo Hillel, as reviewed by Adam Shatz in London Review of Books
[15] عباس شبلاق, مصدر سابق, ص 167.