لا سلام في الشرق الأوسط من دون حل الدولتين الوصول إلى تسوية نهائية عادلة قد لا يكون بالأمر السهل ولكنه ليس مستحيلاً
تؤكد الحرب الجديدة التي اندلعت فجر السبت الماضي بين حركة “حماس” وإسرائيل حقيقة لا يمكن تجاهلها بعد اليوم: لا سلام دائماً في الشرق الأوسط من دون حل إقليمي للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي المستمر منذ عقود
يرتسم اليوم أمامنا مساران لا ثالث لهما للمضي قدماً، يقوم الأول على تعميق النزاع سعياً إلى تحقيق وهم إزالة إسرائيل من الخريطة بشكل كامل، وهو السبيل الذي تفضله إيران الداعمة لسلسلة الهجمات العنيفة غير المسبوقة التي شنتها حركة “حماس” خلال اليومين السابقين ضد مدنيين أبرياء في الداخل الإسرائيلي، وذلك بحسب ما أعلنت الحركة صراحة. وسيصب الرد العنيف المتوقع من إسرائيل داخل غزة في صالح إيران، إذ سيسهم في تأجيج الأحقاد والعداء بين طرفي الصراع.
أما الطريق الثاني فيصبو إلى تحقيق السلام الدائم والقائم على التوافق بين شعوب المنطقة. وكانت السعودية قد اقترحت هذا النهج قبل أكثر من عقدين من الزمن، حين أثمرت جهودها الدبلوماسية والسياسية الشاقة مبادرة السلام العربية التي أعلنت خلال القمة العربية في بيروت عام 2002، والتي وعدت إسرائيل باعتراف دولي وشرعية إقليمية وضمانات أمنية مقابل مجموعة من التنازلات تشمل قيام دولة فلسطينية على أساس حدود 1967.
تغير الواقع الميداني في السنوات الـ21 التي مرت منذ تلك المبادرة، وبات بعض بنودها، مثل العودة إلى حدود عام 1967، يبدو صعب المنال اليوم، ولكن المسؤولين السعوديين لا يزالون مقتنعين بأن المبادرة تمثل أساساً متيناً يمكن أن تنطلق منه مبادرات حسن النية. فالوصول إلى تسوية نهائية عادلة قد لا يكون بالأمر السهل، ولكنه ليس مستحيلاً.
وقد اكتسبت جهود السعودية نحو تحقيق السلام زخماً متزايداً في ظل تكثيف المساعي من قبل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في هذا الإطار. وكان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قد أكد في مقابلته الأخيرة مع الإعلامي بريت باير في قناة “فوكس نيوز” الأميركية التزام السعودية السعي إلى تحسين حياة الفلسطينيين من خلال مفاوضات التطبيع، كما شدد وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان في الجمعية العامة للأمم المتحدة على تمسك السعودية بالمبادرة كأفضل نهج لتحقيق ذلك الهدف.
ومع ذلك، يبدو أنه لا إرادة سياسية في إسرائيل لوضع حد لسياسات الوحشية والإذلال ومصادرة أراضي الفلسطينيين. فالتعنت الإسرائيلي تجاه المسألة الفلسطينية لا يزال ثابتاً، على رغم تصاعد الآراء المؤيدة لحل الدولتين في المجتمع الإسرائيلي، خصوصاً في مقابل واقع الدولة الواحدة الذي قد يحول اليهود إلى أقلية.
خلال مفاوضات التطبيع بين إسرائيل والسعودية كان لافتاً تهامس البعض في الجانب الإسرائيلي عن عدم اهتمام السعودية بالقضية الفلسطينية، كونها مشكلة ثانوية بالنسبة إلى السعودية التي تولي الأولوية لصالحها الأمني والوطني. وعلى رغم توضيحات المسؤولين السعوديين المتكررة عن مركزية القضية الفلسطينية في المفاوضات وفي أي اتفاق قد ينجم عنها، فإن نظرية عدم اكتراث السعودية بالقضية الفلسطينية بقيت هي السائدة.
وقد رد مسؤول سعودي رفيع المستوى في حديث أجريته معه على هوامش الجمعية العمومية للأمم المتحدة على تلك المزاعم، وقد غلب على نبرته شيء من الإحباط، فعبر لي عن استغرابه الشديد من عدم فهم الإسرائيليين أن إيجاد إطار موثوق للمفاوضات يمكن أن يؤدي إلى سلام دائم هو مسعى يصب في صالحهم، إذ إن أية مفاوضات من دون إطار مماثل ستبقى رهينة أهواء أولئك الذين يحرضون على العنف الدائم، وكذلك رهينة الردود المتوقعة للمتشددين من الطرف الآخر.
الدفع السعودي الحقيقي والجدي نحو إيجاد حلول عملية وواقعية لهذا الصراع الطويل ينبع من فهم السعودية للتهديد الذي ستمثله أية تسوية ناجحة للقضية الفلسطينية لاستراتيجية إيران القائمة على إثارة العنف بشكل دائم، تلك الاستراتيجية التي أتاحت لإيران بناء شبكة من وكلاء “المقاومة” في جميع أنحاء المنطقة، من اليمن إلى العراق ولبنان، مروراً بغزة، ففرضت مصائر بائسة على عشرات الملايين في هذه البلدان وضربت استقرار المنطقة عرض الحائط. صحيح أن ما من دولة سوى إيران يمكنها حشد الجماعات الإسلامية المسلحة بشكل منسق، لكن في المقابل، ما من دولة سوى السعودية يمكنها حشد جهود الدول الإسلامية لدفع العمل الجماعي باتجاه بناء السلام الدائم في المنطقة والحفاظ عليه.
الكرة الآن في ملعب إسرائيل، فإما أن تختار عملية سلام موثوقة تضع حداً لدوامة العنف اللامتناهية التي نشهد أحد مظاهرها اليوم، وإما أن تستمر في الوقوع في أتون الحرب والعنف حتى إشعار آخر.
يجب ألا يترك مفتاح الحل في المنطقة في أيدي أولئك الذين يحتفون بمقتل المدنيين وبالمعاملة اللاإنسانية للسجناء والأسرى من أي طرف كانوا. فمعظم الفلسطينيين والإسرائيليين قد سئموا الحروب وسفك الدماء، ولا يهمهم اليوم سوى أمان وسلامة أولادهم، وليس التشابه بين خطابات أعداء السلام والتقدم من الجانبين بالمستغرب، فهم يتركون بصمتهم بوضوح في الهجمات الإرهابية، أو في الدمار الناتج من قصف المدنيين في غزة، ومن ثم يتحسرون على الدماء المسفوكة. الجروح حقيقية في الجانبين، ولكن الحلول المطروحة ليست سوى وهم، فالدماء لن تولد إلا الدماء.
وما هذه الهجمات الفظيعة سوى محاولة من قبل أعداء السلام لإملاء شروطهم على أطراف هذا الصراع. فأفعالهم الصادمة صممت لتكون كذلك، أي صادمة، وتحديداً بسبب تسارع وتيرة المفاوضات الأميركية – السعودية – الإسرائيلية. فأمام اقتراب آفاق السلام من كونها حقيقة يوماً بعد يوم، لم يجد هؤلاء سوى سفك الدماء كرد على تهديد خططهم القائمة على استمرار العنف في المنطقة. يبقى على إسرائيل اليوم ألا تقدم لهم مبتغاهم هذا على طبق من فضة، مهما كان ذلك القرار صعباً.
محمد اليحيى زميل أول في مركز بيلفر في هارفرد ومحاضر في كلية جون كينيدي